مَحْمُوْدٌ يُرِيْدُ أَنْ يَعْرِف!

0 71
.

الإثنين
حلَّ صديقي الشَّاعر والرِّوائي البارع جمال محمد إبراهيم، الأسبوع الماضي، ضيفاً عزيزاً على هذا المكان، فأعجبتني مضاهاته، وإن استهولْتُها، بين «الرُّوزنامَة» و«الشَّاهنامَه»، وقفز إلى ذهني حفيدي إياد، ذي الأربع سنوات، والشَغوف بأصوات الحروف، ونسق التَّقفية، حتَّى في منثور الكلام! حدث، يوماً، أن طلبت منه، وقد لدَّني بإزعاجه عن بعض مشغوليَّاتي، أن يذهب ليلعب في «المنامة»، ففاجأني بسؤاله، وهو يلثغ ضاحكاً: يا جدُّو في «المنامة» ولا في «الرُّوزنامة»؟!
«الشَّاهنامة» هي الملحمة الوطنيَّة العظمى لبلاد فارس، وقد بدأ نظمها، في الأصل، أبو منصور الدَّقيقي، لولا أنه قُتل، فأتمَّها أبو قاسم الفِردَوْسِي (ت 329 هـ)، في حوالي ستِّين ألف بيت من البلاغة الشعريَّة الباذخة، كأطول قصيدة عرفها الشِّعر العالمي، إذ تعادل ضعفي حجم الإلياذة والأوديسا معاً! وقد نقلها إلى العربيَّة الفتح بن علي البنداري (ت 643 هـ). وكان الفردوسي إقطاعيَّاً ثريَّاً تمكَّن من التفرُّغ، تماماً، على مدى خمسة وثلاثين عاماً لوضع هذا الأثر العظيم الذي لم يشتهر إلا بعد وفاته، والذي تمَّ تزيينه برسومات ملوَّنة يعود أقدمها إلى القرن الثَّاني عشر الميلادي، وتتناول مظاهر الحضارة الفارسيَّة من ملوك، وجيوش، ومعارك، وغيرها. ويرى الكثيرون أن مكانة الفردوسي في الثَّقافة الفارسيَّة تماثل مكانة شكسبير في الإنجليزيَّة، وهوميروس في الإغريقيَّة.
صوَّرت «الشَّاهنامة» حضارة فارس، منذ عصورها السَّحيقة، وحتَّى سقوطها، في العصر الإسلامي، على أيدي العرب. وجاء قسمها الأوَّل محتشداً بالأساطير، والخرافات، والخوارق، أمَّا قسمها الأخير فقد عُني بتاريخ أمَّة الفرس، والتَّوثيق لملوكها، وسياساتهم، ومعاركهم. ولعلَّ أطرف ما فيها تجدُّدها المستمر، لحرص ملوك إيران المتعاقبين على تخليد ذكراهم فيها.
لا تزال «الشَّاهنامة»، حتَّى الآن، وبرُّغم وفاة الفردوسي قبل أكثر من ألف عام، أعظم عمل أدبي في الفارسيَّة، بل ومن أهم الأعمال الأدبيَّة في العالم.
الثُّلاثاء
لم أرتح لنفى مدير شرطة محليَّة أم بدَّة ضلوع أيَّة جهات سياسيَّة في التَّفلُّتات الأمنيَّة مؤخَّراً، حيث أثبتت التَّحرِّيات، حسب قوله، أنهم معتادو إجرام وأصحاب سوابق! ولكن .. من قال إن أمثال هؤلاء لا يكونون، في العادة، عرضة لـ «استثمار» طاقاتهم «الإجراميَّة» في تحقيق أغراض سياسيَّة؟!
الأربعاء
استقلَّت النيجر عن فرنسا عام 1960م. لكن رئيسها محمَّد إيسوفو قرَّر، مؤخَّراً، التَّنحِّي، طواعية، بعد قضائه عشر سنوات، على فترتين، في سدَّة الرِّئاسة. وهذه أوَّل سابقة في هذا البلد الكائن في غرب أفريقيا، بالنِّسبة للانتقال الدِّيموقراطي من رئيس لخلفه المنتخب، مقارنة مع رؤساء بلدان الإقليم الذين درجوا حتَّى على تعديل دساتير بلدانهم لأجل الاستمرار في مناصبهم! غير أن ذلك ليس هو السَّبب الوحيد لتأهُّل إيسوفو لنيل «جائزة مو إبراهيم» الأفريقيَّة التي تبلغ قيمتها الماليَّة 5 ملايين دولار، والتي تُمنح لأيِّ رئيس يتنازل لخلفه المنتخب، طواعية، بعد أن ظلت تُحجب طوال السَّنوات الماضية، حيث لم ينجح أحد (!) فثمَّة سبب إضافي هو حُسن قيادة إيسوفو لأفقر دولة في العالم، بتصنيف الأمم المتَّحدة، ونجاحه في تعزيز اقتصادها، واجتهاده لتحقيق الاستقرار الإقليمي، ودفاعه عن الدِّيموقراطيَّة الأفريقيَّة، وجعْلِ بلاده الأقل عُرْضة لهجمات القاعدة، أو تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة، أو بوكو حرام، مقارنة مع نشاط هذه الجَّماعات ضدَّ جيرانه: مالي، ونيجيريا، وبوركينا فاسو، الأمر الذي أشادت به لجنة الجَّائزة بوجه خاص.
الخميس
قبل أيَّام، وبمكتب أحد الأصدقاء من زملاء المهنة، جمعتني حلقة نقاش ضيِّقة، تشقَّق الحديث فيها، وطال، في ما طال، مسألة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، وقضيَّة دارفور، فانقسمت الحلقة إلى مؤيِّدين ومعارضين لمشروعيَّة الخضوع لاختصاص هذه المحكمة، ومن ثمَّ تسليم المتَّهمين المطلوبين لها. أثار الرَّافضون لولايتها الشُّروط المسبقة الواجب توفُّرها للقبول بهذا الاختصاص، ومن ثمَّ الخضوع، والتَّسليم، واستندوا، بوجه خاص، إلى المادَّة/12 من نظام روما لسنة 1998م Rome Statute، والذي تعمل المحكمة بموجبه. في السِّياق تداولوا، بالتَّفصيل، ما تنصُّ عليه المادَّة المشار إليها من أن الدَّولة التي تصبح طرفاً في هذا النِّظام هي التي تقبل، دون قيد أو شرط، باختصاص المحكمة. واحتجُّوا بأن السُّودان ليس طرفاً، لكونه، منذ البداية، لم يصادق على توقيعه، دَعْ كونه، في وقت لاحق، سحب حتَّى هذا التَّوقيع! كذلك تداولوا حالات القبول بالاختصاص، وما أدراك ما القبول بالاختصاص، حتَّى لو لم تكن الدَّولة المعنيَّة طرفاً في النِّظام!
مع احتدام النِّقاش، وارتفاع النَّبرات، وحرارة الحماس، غابت عن مجلسنا ذاك حقيقة بسيطة، وهي أن الاختصاص قد انعقد، في قضيَّة دارفور، للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، لا لأن السُّودان قد أحالها إليها تحت المادَّة/14 مقروءة مع المادَّة/13 (أ) من نظام روما، ولا لأن المدَّعي العام الدَّولي قد قرَّر مباشرة التحقيق فيها من تلقاء نفسه تحت المادَّة/15 مقروءة مع المادَّة/13 (ج) من النِّظام، وهما الحالتان الوحيدتان اللتان قد يجوز الاستناد فيهما إلى «عدم التَّوقيع/عدم المصادقة» كحجُّة على (عدم الانضمام)، بل انعقد لها الاختصاص تحت المادَّة/13 (ب) التي تمنح مجلس الأمن الدَّولي سلطة الإحالة إلى المحكمة Referral تحت الفصل السَّابع من ميثاق الأمم المتَّحدة!
وإذن فإن إثارة المسألة المتعلقة بـ «عدم التَّوقيع/عدم المصادقة» كحُجَّة على «عدم اختصاص المحكمة»، أو تكأة لعدم تسليم المطلوبين، تصبح بلا معنى، فالسُّودان عضو بالمنظمة الدَّوليَّة، منذ استقلاله عام 1956م، ما يعني، ضمناً، موافقته على صلاحيَّة مجلس الأمن الحصريَّة في صون الأمن والسِّلم الدَّوليَّين، والتي تكاد تجعل منه أهمَّ أجهزة المنظَّمة الدَّوليَّة!
طبعاً هناك من يتذمَّر ضدَّ هذا الامتياز. سوى أن الحلَّ، حسب ما تمخَّضت عنه الأوضاع الواقعيَّة لعالم ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، لا يكون بالتَّمرُّد على الشَّرعيَّة الدَّوليَّة المتَّفق عليها، بل بخلق وضعيَّة تسمح بتعديل ميزان القوى الدَّوليَّة من النَّاحية الموضوعيَّة!
الجُّمعة
الفريق أوَّل الرُّكن عبد الفتَّاح البرهان، رئيس مجلس «السَّيادة» الانتقالي، استقبل بمكتبه، الأسبوع الماضي، السَّفير القطري بالخرطوم عبد الرحمن الكبيسي الذي سلَّمه رسالة خطية من تميم بن حمد آل ثاني تضمَّنت دعوته رسميَّاً لزيارة قطر! عقب ذلك أوضح السَّفير، في تصريح صحفي، أن لقاءه مع البرهان تناول «العلاقات الثُّنائيَّة» بين البلدين، وسبل دعمها، وتطويرها! و .. محمود يريد أن يعرف، ولن يملَّ تكرار الأسئلة التي تحيِّره؛ أوَّلاً: هذا العمل شُغل عبد الله حمدوك، رئيس الجِّهاز «التَّنفيذي»، فما شأن رئيس مجلس «السَّيادة»، بل «مجلس السَّيادة» مجتمعاً، به، وشغله «تشريفي» فقط؟! ثانياً: لماذا يسمح رئيس الجِّهاز «التَّنفيذي»، والأمر كذلك، باختطاف رئيس المجلس «التَّشريفي» لعمله؟!
السَّبت
عجبت أن يجد أ/ نبيل أديب وقتاً يتكبَّده، بلا داع، في تدبيج كلِّ هذا الرَّدِّ المطوَّل على كلمتي، بأكثر من ضعفي حجمها، حول العوار القانوني النَّاشب بنيويَّاً في صلب تكوين لجنته «غير المستقلة»، وذلك وسط مشاغله الجَّمَّة «المفترضة» في الاستعداد للقضايا الكبرى التي تنتظره بعد القرار المصري بتسليم المطلوبين إلى السُّودان، بمن فيهم الهارب صلاح قوش! وليت الأستاذ تحسَّب، جيِّداً، لكون عاقبة الثَّرثرة بلا معنى إمَّا اللوك غير المجدي للمغالطات، وإمَّا الاستغراق في اجترار كلامنا نفسه، أو ما يسمَّى في الفلسفة بـ «السَّفسطة»، وكلاهما وقع، فعليَّاً، على النَّحو الآتي:
أوَّلاً: ليس ثمَّة معنى للكلام الكثير، الذي شغل العمود الأوَّل من الصَّفحة بأكمله، في تأكيد الفروق بين «لجان التَّحقيق» التي يخلص عملها إلى تأسيس «دعاوى» أمام القضاء، و«لجان التَّحقيق» التي ينتهي عملها برفع «تقارير»، فقط، إلى السُّلطات العامَّة التي كوَّنتها، فتلك، أصلاً، من أبرز ما انبنت عليه، ابتداءً وحرفيَّاً، كلمتنا ذاتها!
ثانياً: لجان النَّوع الأوَّل تكتسب «استقلاليَّتها» من عملها في إطار سلطة النَّائب العام «المستقل» الذي يشكلها (م/9 ـ م/29 من قانون النِّيابة العامَّة لسنة 2017م)، أمَّا لجان النَّوع الآخر فـ «غيرمستقلة»، لخضوعها للسُّلطة «التَّنفيذيَّة» التي تكوِّنها، وذلك، كذلك، مِمَّا انبنت عليه حجَّتنا، فما كان ثمَّة داع لصرف لغة كثيرة في اجتراره!
ثالثاً: وجدت أ/ نبيل، بدلاً من أن يركِّز على تأسيس حجَّته، بالكليَّة، على «القانون»، كما ينبغي، يتنكَّب سواء السَّبيل، باستناده، في أكثر من موضع، إلى نصِّ «القرار التَّنفيذي» المكوِّن للجنته، والذي هو محلُّ نقدنا! يقول: «كان الأولى به ـ يقصدنا ـ الرُّجوع للقرار لأنه هو الذي يحدِّد سلطات اللجنة»! وهذا خطأ جسيم، لأن «القانون» وليس «القرار» هو الذي «يحدِّد سلطات اللجنة»، ومن ثمَّ فهو مصدر «القاعدة» التي تستوجب الاتِّباع، سواء من «اللجنة»، أو حتَّى من «القرار» نفسه!
رابعاً: يقطع أ/ نبيل، في مغالطة بيِّنة، بأن «واقع الأمر أن رئيس الوزراء لم يصدر قراراً بتكوين اللجنة بموجب سلطاته وفق قانون لجان التَّحقيق»، ومن ثمَّ وجبت الملاحظتان الآتيتان:
(1) يقول أ/ نبيل إن تكوين لجنته جاء «إيفاءً باستحقاق دستوري»، فسُؤالنا: هل حدَّد هذا «الاستحقاق» في «منطوقه» لجنة يخلص عملها إلى «تأسيس دعوى قضائيَّة»، أم نصَّ على مجرَّد تكوين «لجنة»، مِمَّا يلزمنا بالرُّجوع إلى القوانين لنرى أيَّ لجنة يمكن لرئيس الجِّهاز «التَّنفيذي» تكوينها، باعتبار أن ذلك هو محلُّ نقدنا؟!
(2) هل ثمَّة «قانون آخر» سوى «قانون لجان التَّحقيق لسنة 1954م» يمكن لرئيس الوزراء حمدوك يكوِّن هذه اللجنة بموجبه؟!
خامساً: بعد ذلك كله استشعر أ/ نبيل، في ما يبدو، هشاشة الاستناد إلى مجرَّد «الاستحقاق الدُّستوري» لرئيس الوزراء في تكوين «لجنة تحقيق» لا تحتكم على سلطات النِّيابة العامَّة، لأنَّها، في هذه الحالة، ستكون مكوَّنة تحت القانون الوحيد الذي يخوِّل رئيس الوزراء في تكوينها، وهو «قانون لجان التَّحقيق لسنة 1954م»، علماً بأن النُّصوص الدُّستوريَّة تطبَّق عبر القوانين، لذا نرجو، في السِّياق، استبصار الملاحظات الآتية:
(1) مضى أ/ نبيل، فوراً، إلى القول بأن النَّائب العام السِّر الحبر قرَّر منح هذه اللجنة سلطاته، بل ويقتطف من قرار رئيس الوزراء أن «اللجنة .. تتمتَّع بممارسة اختصاص النِّيابة العامَّة .. وفق التَّفويض المرفق»!
(2) لكن أ/ نبيل، في لجَّة استعجاله لإثبات أن لجنته تعمل بسلطات النَّائب العام، لم ينتبه إلى تورُّطه في الخلط بين الأسبقيَّات، على النَّحو الآتي:
أ/ يقول، من ناحية، بالحرف الواحد: «رئيس الوزراء لا يملك سلطة التَّفويض في هذه المسألة، ولكنه لم يفعل ذلك ـ يعني عند إصداره قرار تكوين اللجنة ـ بل أشار إلى أن تلك السُّلطة مُنحت للجنة من النَّائب العام»! يعني، بالعربي الفصيح، أن تفويض النائب العام سلطاته لهذه اللجنة «سابق» حتَّى على قرار رئيس الوزراء بتكوين اللجنة نفسها!
ب/ غير أن أ/ نبيل نفسه ما يلبث أن يرتدَّ على عقبيه ليشير، من ناحية أخرى، إلى أن الفقرة/1/2 من تفويض النَّائب العام «الافتراضي» هذا تقرأ كالآتي: «تُمنح سلطات وكالة النِّيابة العامَّة .. للجنة .. المشكَّلة بموجب القرار رقم/63 لسنة 2019م، الصَّادر من رئيس الوزراء»! يعني، بالعربي الفصيح أيضاً، أن تفويض النَّائب العام سلطاته لهذه اللجنة «لاحق» على قرار رئيس الوزراء بتكوين اللجنة!
(3) وليس سوى أ/ نبيل نفسه، من يستطيع، بطبيعة الحال، فضَّ هذا التَّناقض المربك، أو ردَّ هذه العصيدة اللبيكة إلى عناصرها الأوَّليَّة الصَّريحة، من خلال إجابة واضحة مستقيمة على السُّؤال المشروع: متى منح النَّائب العام، المستقل عن السُّلطة التَّنفيذيَّة، سلطاته للجنة التي كوَّنتها هذه السُّلطة التَّنفيذيَّة: هل قبل صدور قرار تكوينها نفسه، أم بعد صدوره؟!
سادساً: والأهمُّ، بل وربَّما الأخطر، هو أن ذلك التَّصرُّف لا يُعتبر صحيحاً، أو مسنوداً، تماماً، بالقانون، لمجرَّد صدوره من جانب النَّائب العام. وقبل أن نوضِّح ذلك يلزمنا أن نشير إلى أن أ/ نبيل يعمد لقراءة النُّصوص القانونيَّة بما يلائم منطقه هو، وحجَّته الخاصَّة! ويتبدَّى ذلك جليَّاً في محاولته الفاشلة للاستناد إلى «الزَّعم» بأن قانون النِّيابة العامَّة يبيح للنَّائب العام منح سلطات وكيل النِّيابة لأيِّ شخص أو «لأيِّ لجنة»! لكننا، بأقلِّ تدقيق في قراءة النَّصِّ، نجده يبيح للنَّائب العام منح سلطات وكيل النِّيابة في التَّحرِّي أو التَّحقيق لأيِّ شخص أو «لأيِّ لجنة يشكِّلها»! فهل النَّائب العام هو الذي «شكَّل» لجنة نبيل؟! أنظر، يا رعاك الله، كيف يقرأ الأستاذ هذا النَّص بعد أن يجرِّده من عبارة «يشكِّلها»، ليصبح من حقِّ النَّائب العام منح سلطاته «لأيِّ لجنة»، بصرف النَّظر عما إن كان «شكَّلها» هو أم غيره، ويستقيم، من ثمَّ، منحه سلطاته للجنة أ/ نبيل التي شكَّلها رئيس الوزراء، لا النَّائب العام، مِمَّا يدفع بتصرُّف أ/ نبيل من خانة «الخطأ» إلى خانة «العيب» إزاء واجبه المفترض تجاه المتلقِّين من غمار الجُّمهور، دَعْ القانونيِّين مِمَّن هم في مقام تلاميذه! فهل هكذا تورد الإبل أيُّها الأستاذ الكبير؟! حقَّاً إن الغرض مرض، ولا قوَّة إلا بالله!
سابعاً: أمَّا تعبيرنا عن «مسؤوليَّة» النَّائب العام عن عمل اللجنة، حال إقراره بـ «الإشراف» عليها، فإن فهم أ/ نبيل أننا نرمي به إلى «تخويف» الرَّجل، ففهمٌ قاصرٌ بغيتنا الحقيقيَّة، في الواقع، هي تأكيد «التَّبعات» التي تترتَّب على هذا «الإشراف»، في ما لو صحَّ وروده، وهي «تبعات» منطقيَّة ما في ذلك شك؛ أم يظنُّ أ/ نبيل أن «الإشراف» لا يرتِّب «تبعة/مسؤوليَّة» على «المشرف» عمَّا قد يصدر من «قرارات» في سياق هذا «الإشراف»، طالما أنه يملك، على حدِّ تعبيره، سلطة إلغاء هذه القرارات؟!
ثامناً: وأمَّا محاولته «تدريسنا» مسائل في القانون الدَّولي، والمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، فاستسهال للولوغ في أمواج نهر صخَّاب، ذي موج لجب، بلا عدَّة ولا عتاد، ذلك لأن:
(1) من غير الصَّحيح الفصل بين مصطلحي «مكتب المدَّعي العام الدَّولي» و«المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة»، فالأوَّل جزءٌ لا يتجزَّأ من الثَّاني، مثله في ذلك مثل «هيئة الرِّئاسة»، و«الشُعب الاستئنافيَّة»، و«الابتدائيَّة»، و«التَّمهيديَّة»، و«قلم المحكمة» (م/34 من نظام روما). وإذن، فإن الإحالة إلى هذه «المحكمة» تعني الإحالة، ابتداءً، إلى «مكتب المدَّعي العام». والقرار/1593 الذي أصدره مجلس الأمن الدَّولي، في 31 مارس 2005م، بعد تلقيه تقرير لجنة التَّحقيق الدَّوليَّة حول الحالة في دارفور، قضى بإحالة هذا الملف إلى «المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة»، في معنى إحالته، ابتداءً، إلى «مكتب الإدِّعاء الدَّولي». وقد نجم خطأ أ/ نبيل من أخذه التَّعبيرين من الزَّاوية «اللغويَّة»، لا «الإصطلاحيَّة»!
(2) التَّحقيق الأوَّلي الذي يجريه الإدِّعاء في أيِّ، ملفٍّ، ابتداءً، هو الذي يرتِّب عليه التُّهمة، أو التُّهم، قبل عرضها للقبول أو الرَّفض من جانب الدَّائرة الابتدائيَّة Pre – Trial Court. وهذا ما حدث، بالفعل، في قضيَّة دارفور، إذ حقَّق الإدِّعاء، ابتداءً، في شأن كوشيب، وهارون، وعبد الرَّحيم، وفي «نهاية» هذا التَّحقيق «الابتدائي» حدَّد التُّهم، وعرضها على الدَّائرة «الابتدائيَّة» التي قبلتها، ومن ثمَّ انفتح الطريق أمامه للسَّير قدماً في جمع الأدلَّة؛ كما استكمل تحقيقه الأوَّلي ضدَّ البشير، حيث وجَّه إليه تهماً بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وجريمة الإبادة الجَّماعيَّة، وقدَّمها، أيضاً، إلى الدَّائرة الابتدائيَّة التي قبلت التُّهمتين الأوليين، ورفضت الثَّالثة! وكنت كتبت، قبل صدور قرار الدَّائرة الابتدائيَّة، أنها لن تقبل تهمة «الإبادة الجَّماعيَّة»، حيث أنها لم توجَّه، ابتداءً، للمتَّهمين «المرءوسين» الأوائل، فلا يجوز توجيهها للبشير «الرَّئيس»، وذلك لأسباب تتعلق بنظريَّة «تسلسل القيادة Chain of Command»، وهو ما حدث بالفعل، لولا أن المدَّعي الدَّولي استأنف قرار الدَّائرة الابتدائيَّة بحُجَّة أنها تطالبه، في هذه المرحلة الباكرة، بالإثبات دون شكٍّ معقول beyond a reasonable doubt!
(3) من غير الصَّحيح قول أ/ نبيل بأن المدَّعي العام لا يشرع من تلقاء نفسه في أيِّ تَّحقيق، إذ يستطيع ذلك على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة (م/13/ج ـ م/15 منه)، بعد أن يبعث، إذا رأى ذلك مناسباً، بإشعار سرِّي إلى جميع الدُّول الأطراف، والدُّول التي يرى في ضوء هذه المعلومات أن من عادتها ممارسة ولايتها على هذا النَّوع من الجَّرائم (م/1/18).
أخيراً، وربَّما ليس آخراً، فإن بقية الثَّرثرة التي استغرقت من أ/ نبيل أكثر من نصف مقالته، هي محض استعراض لمعلومات عامَّة يمكن، حتَّى للهواة، الحصول عليها من الانترنت، ومع ذلك فهي خارج موضوعنا، بل مِمَّا يسمَّى في الفلسفة بـ «السَّفسطة»، فهي نوع من لزوم ما لا يلزم، وضرب من التَّزيُّد الذي لا داعي له، ولا نرانا محتاجين للتَّصدي بالتَّعقيب عليه. وإذا تبقَّى ما نهمس به في أذن أ/ نبيل، فهو أن من العيب جدَّاً ألا يتحلَّى بقدر مطلوب من التَّواضع، فلا يحاول أن يلقي دروساً أوَّليَّة في القانون الدَّولي لشخص متخصِّص فيه أكاديميَّاً، ومتدرِّب عليه، عمليَّاً، في أروقة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، وميسِّر facilitator، بتكليف منها، لورش عملها، وبرامج دوراتها التَّدريبيَّة للقانونيِّين والإعلاميِّين الشَّباب، في بعض المناطق، كشرق أفريقيا مثلاً، وناشر العديد من الأوراق، والمقالات، والمساهمات العلميَّة في هذا المجال، بما في ذلك كتابَيَّ «الحقيقة في دارفور»، و«النِّزاع بين السُّودان والمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة»، وقد صدرت الطبعة الأولى من كليهما عن «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان»، عام 2006م، يوم لم يكن كثيرون ليجرؤوا على تحريك ألسنتهم بهذه الأمور، وحالت أجهزة صلاح قوش الأمنيَّة دون توزيعهما في السُّودان، حتَّى مكَّنت ثَّورة ديسمبر المجيدة، مؤخَّراً، «دار عزَّة للنَّشر بالخرطوم» من إصدار الطبعة الثَّانية من الكتاب الثَّاني، وتتأهَّب، الآن، لإصدار الطبعة الثَّانية من الكتاب الأوَّل خلال الأيَّام القادمة. ويعلم الله أننا لا نرمي إلى التَّباهي بذلك، مع أنه يصبح حقَّاً لنا أن نفعل عندما يحاول البعض ممارسة «أستاذيَّة» غير مستحقَّة علينا! تلك معلومة بسيطة نهديها، بتواضع، إلى أ/ نبيل أديب، مع خالص التَّحايا!
الأحد
سأل زوج مشاغب زوجته، يريد إغاظتها، والعالم يحتفل بيوم المرأة العالمي في 8 مارس: لماذا خلقت النِّساء في غاية الجَّمال، وفي غاية الغباء؟! فردَّت عليه زوجته الأكثر مشاغبة منه تريد إغاظته بالمقابل: في غاية الجَّمال لتُحبوهنَّ، وفي غاية الغباء ليًحببنكم!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.