شرق السودان: كرم الطبيعة وبُخل السياسة
لازلنا نواصل سلسلة المقالات التي نضمنها مشاهداتنا وانطباعاتنا ونتائج لقاءاتنا التي أجريناها في ولاية البحر الأحمر خلال زيارتنا التي امتدت من 20 إلى 31 يناير الماضي.وهي الزيارة التي تمت تلبية لدعوة كريمة للمشاركة في ورشة بعنوان “شرق السودان: آفاق جديدة نحو التحول المدني الديمقراطي والتعايش السلمي”، إحدى فعاليات مؤتمر المائدة المستديرة الذي تنظمه جامعة البحر الأحمر بالتعاون مع اتحاد خريجي الجامعة، والمجموعة الوطنية لترسيخ الديمقراطية. وكنت قد أشرت في بداية هذه السلسلة من المقالات، إلى أنني لم أتردد لحظة في قبول الدعوة، لذلك، وفور انتهائي من قراءة السطر الأخير في خطاب الدعوة،كنت قد بلورت قراري في نقطتين شكلتا مضمون ردي إلى الجهة صاحبة الدعوة والمنظمة للورشة. أكدت في النقطة الأولى، قبول الدعوة واستعدادي للسفر إلى بورتسودان رغم المحاذير الصحية الخاصة والعامة. وفي النقطة الثانية، طلبت أن تقدم لي أية مساعدات ممكنة حتى أستطيع أن أزور الميناء والتعرف عليها، وبالطبع التعرف أيضاً على مدينة بورتسودان، علماً بأن زيارتي هذه ستكون هي المرة الأولى التي أزور فيها مدينة بورتسودان وولاية البحر الأحمر. وفي النقطة الثانية أيضاً، طلبت المساعدة في تيسير الالتقاء بالمكونات السياسية والمدنية والأهلية في الإقليم، وخاصة الالتقاء مع القيادات الأهلية ممثلة في نظارات وعمد ومشايخ القبائل، لما لهذه القيادات من دور فاعل في الحراك السياسي والاجتماعي في المنطقة. وعندما تقدمت بطلب المساعدة لتيسير اللقاءات هذه، كنت واضعا في البال التوترات التي تشهدها المنطقة، والتي وصلت حد الاقتتال بين الأخوة في الوطن والإقليم، وكذلك الأقاويل الكثيرة المثارة حول ميناء بورتسودان ومستقبلها، وقلت أن الزيارة ستشكل، بالنسبة لي، فرصة ذهبية تتيح الفهم والدراسة من المباشر والملموس، وتلعب دوراً هاماً في أن تأتي أية مساهمات نتقدم بها ونطرحها في مقال أو حوار أو موقف نتبناه حيال قضايا الشرق، أقرب إلى الواقع والحقيقة. وبالطبع، ما كان من الممكن أن أفعل غير ذلك بحكم أن الفضاء الذي أعمل فيه هو السياسة والكتابة المتعلقة بقضايا الوطن والمجتمع والناس.وبالفعل، كانت الحفاوة والتفاعل الإيجابي في استقبالنا أينما حللنا، في مدينة بورتسودان وفي كل مناطق الولاية الأخرى التي زرناها، وخرجنا من هذه اللقاءات المتعددة بذخيرة ثمينة من الدروس الهامة، والتي طرحت وناقشت مجموعة من التصورات والتشخيصات حول جذور ومسببات القضايا والمشاكل الأساسية التي تستوطن ولاية البحر الأحمر، كما تقدمت بمقترحات حول كيفية التصدي لعلاج هذه القضايا والمشاكل، وذلك في ارتباط وثيق بالمعالجات المطروحة للتصدي لقضايا السودان المركزية. وفي كل مقال من مقالاتنا السابقة حرصنا على تلخيص هذه الدروس التي خرجنا بها، دون تعليقات مباشرة من جانبنا على أن نتقدم بأية تعليقات وملاحظات في ختام المقالات.لكني إخترت عنواناً رئيساً لهذه السلسلة من المقالات، وهو “كرم الطبيعة وبُخل السياسة في شرق السودان”، وهو عنوان له مغزاه ودلالاته الواضحة، ويأتي تعبيراً عن ما رأيناه ولمسناه، أثناء الزيارة، من مفارقة عجيبة تتلخص في أن ولاية البحر الأحمر غنية جداً بموارد وثروات ضخمة، ومع ذلك تُعتبر من المناطق الأقل نمواً والأكثر فقراً في السودان، حيث البنية التحتية والمشاريع التنموية شبه منعدمة، وحيث تتفشى فيها المجاعات والأمراض والأمية.
وللتذكير والمتابعة،لخصنا في مقالاتنا السابقة نتائج لقاءاتنا مع قيادات قبائل البشاريين والعبابدة والأمرأر والهدندوة والبني عامر والحباب وقيادة نادي البجا. أما في مقال اليوم، فنستعرض لقاءنا مع “غرفة إدارة الأزمة” في رابطة أبناء جبال النوبة بولاية البحر الأحمر، والتي كونتها الرابطة للتواصل مع مكونات الولاية وجهاتها الرسمية، بهدف إطفاء نيران الفتن والنزاعات. والغرفة تتكون من القيادات الأهلية وقيادات المجتمع المدني والمثقفين والناشطين من أبناء النوبة القاطنين ولاية البحر الأحمر.
منذ عشرات العقود، ظلت فضاءات إقليم البحر الأحمر، ومدينة بورتسودان تحديداً، تفتح ذراعيها لتحتضن القادمين إليها من كل مناطق السودان الأخرى، شمالاً وغرباً وجنوباً، إما تغييراً وتطلعاً لحياة جديدة، أو بحثاً عن العيش الكريم ونفوراً من غياب التنمية واختلالات توزيع الموارد، أو طلباً للأمن والأمان وهرباً من النزاعات والحروب الأهلية في مناطقهم التي نزحوا منها. ومن ضمن هولاء، كان أهلنا النوبة الذين استوطنوا المنطقة منذ عشرات السنين، لكنهم أبداً لم يعيشوا عالة على الموارد المحلية، وإنما شكلوا إضافة لقوة العمل ومساهمة في إنتاج القيمة الاقتصادية، من خلال العمل العضلي والذهني، خاصة في الميناء، وأصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في المنطقة، وظلت علاقتهم مع المكونات الأخرى يجللها الوئام والتعايش السلمي إلى أن أطلت الفتنة برأسها. يحدثنا وكيل ناظر قبائل النوبة فيقول، إن الاقتتال مع البني عامر والحباب، لم يكن بسبب نزاع على أرض أو حواكير أو ماشية، فهذه أصلاً غير موجود، وإنما بسبب فتنة سياسية، تمتد جذورها خارج الإقليم وإلى أزمان بعيدة. ففي ثمانينات القرن الماضي، كانت قيادات الجبهة الإسلامية القومية تشحن أعضاءها وأنصارها في بورتسودان ضد النوبة باعتبارهم كفرة وثنيين…! ومع إحكام الإنقاذ قبضتها على البلاد، تفاقمت المشاكل بسبب العطالة وعدم العدالة في فرص العمل، علماً بأن بورتسودان كان بها 55 مصنعاً، إضافة إلى الخطوط البحرية والسكك الحديدية، وكلها للأسف دمرتها الإنقاذ. بل الإنقاذ سعت إلى بث الفرقة داخل مجموعة النوبة عندما قسّمت الإدارة الأهلية الموحدة إلى نظارتين. كما أن مجموعات الجهاد الإسلامي الإريتري المسلحة، لعبت دوراً في تأجيج الصراع والهجوم على النوبة لأسباب عرقية وآيديولوجية. ويتواصل الحديث مع أعضاء “غرفة إدارة الأزمة” التابعة لرابطة أبناء جبال النوبة في ولاية البحر الأحمر، فيقول أحدهم أنهم لاحظوا محاولات الإنقاذ، خاصة عندما كان إبراهيم محمود وزيراً للداخلية، لتغيير ديموغرافية المدينة، ولاستيلاء شركات مرتبطة بالخارج على مفاتيح مواقع الاقتصاد الرئيسية. وهو يتهم الإعلام بالعمل على تشويه صورة النوبة واختلاق قصص عن فظائع يرتكبها آخرون فتُنسب إلى النوبة. ويقول آخر، أن ثقتهم في الحكومة والأجهزة العدلية والنظامية إهتزت بسبب تغاضي هذه الأجهزة عن السلاح الكثيف والمتطور ومتعدد الأنواع، المتواجد في أيدي الجماعات الأخرى، في حين النوبة لا يملكون أي سلاح. وبسبب ضعف تحريات وكلاء النيابة، وأن الجناة الذين استخدموا السلاح يُسمح لهم بالإفلات من العقاب، وبسبب أن الحكومة تتجاهل مأساتهم ولا تنصفهم أبداً، إمتداداً لحالة عدم الإنصاف التي ظل يعاني منها النوبة منذ فجر الإستقلال وحتى هذه اللحظة، حتى بات يتملكهم الإحساس بالدونية وأنهم غرباء وغير مرغوب فيهم في بلدهم، وترسب الغبن والشعور بالاضطهاد في دواخلهم. وعضو آخر في الغرفة توجه بالانتقاد إلى أبناء شمال السودان، ومنهم مجموعات كبيرة في المدينة، لأنهم لم يتقدموا بأية مبادرة لإخماد الفتنة رغم أن قطاعات واسعة من أبناء النوبة توقعت منهم ذلك. وتشككت إحدى المشاركات في اللقاء من إمكانية إنهاء الأزمة قريباً لأن القبلية مقننة في بورتسودان، وأحياء المدينة السكنية مخططة على أساس قبلي وإثني، مما يجعل من التمازج الإجتماعي أمراً صعباً ولكنه ليس مستحيلاً. وأشارت سيدة أخرى إلى أن النظام البائد يسعى جاهداً إلى العودة إلى السلطة مستفيداً من أجواء الفتن والتوترات، بل أنه يسعى لتقوية موقفه الإنتخابي من خلال الصعود على ظهر بعض المكونات القبلية في الإقليم، مستغلاً تقاربة مع بعض قيادات هذه المكونات.
وفي ختام اللقاء، لخص وكيل ناظر قبائل النوبة وجهة نظرهم قائلاً بأن الأزمة لن يحلها وجود أحد أو إثنين من أبناء النوبة في مجلس السيادة أو مجلس الوزراء أو حكومة الولاية، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير وترتبط بالأزمة العامة التي يعاني منها السودان، وبضرورة مخاطبة جذورها، وجذور أسباب الحرب الأهلية والنزاعات والتفلتات القبلية في كل أنحاء البلاد. أما بالنسبة لشرق السودان، فلابد من العمل المشترك لإخماد نيران الفتنة في الإقليم، بدءاً بتنفيذ الإجراءات الضرورية لتهيئة الأجواء لالتئام حوار شامل يبحث في كيفية الدفع بالتعافي المتبادل بين كل الأطراف، لصالح رتق النسيج الإجتماعي وبسط السلام والتعايش بين الأطراف المتنازعة. وهذه الإجراءات الأولية، تشمل نزع السلاح نزعاً كاملاً وحصر تواجده فقط في القوات النظامية، إكمال التحقيقات وتقديم كل من تسبب في الفتنة، مهما كان موقعه ومقامه، إلى العدالة، تقديم التعويضات المناسبة لكل المتضررين من كل الأطراف، توجيه الإعلام الرسمي ليلعب دوراً إيجابياً في نبذ خطاب العنصرية والكراهية وإتاحة منابره لكل المجموعات دون تمييز، التشدد في عمليات اختيار الناس للوظائف المختلفة بحيث تكون الكفاءة والمؤهلات، وليس القبيلة أو صلة القرابة، هي المعيار الأساس،مراجعة الأوراق الثبوتية مثل شهادات الجنسية والرقم الوطني.