هل ترك فينا الترابي مفتاحاً لثنائية العلمانية والدينية (أخيرة)

0 51
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
سئل رمز من رموز قحت في أول الثورة عن “هوية الدولة” التي يزعمون بنائها من جهة علاقتها بالإسلام. فقال إن ذلك مما سنؤجله إلى ما بعد انتخابات نهاية المرحلة الانتقالية وقيام الجمعية التأسيسية. وكان ذلك حسن تخلص لا إجابة. فلا يصح لمن أنفق ثلاثين عاماً معارضاً ألا يكون قد رسم صورة، ولو عامة، لهذه الهوية. ومع ذلك لا يستغرب المرء هذا التسويف منه ومن جماعته. فحتى صورتهم لما يكون عليه اقتصاد الانتقالية انتظرت سقوط الإنقاذ لينعقد مؤتمر لها لم يشف غليلاً. وتركهم متنازعين بعده مثل قبله. وكنت بسبيل تدارك هذا النقص في صورة هوية دولة الثورة في لقاء لي بالسودانيين في مدينة دنفر كولورادو الذين دعوني مشكورين للحديث لهم عن شأن في الثورة. واخترت أن يكون عن خطة تجاوز ثنائية العلماني والديني بطريق طرقه الدكتور حسن الترابي واستحسنته. ولو قلت لك أن كلمتي لم تقع لهم أكون قد قلت النذر عن استجابتهم.
عرضت أمس لفكرة الترابي في تفكيك ثنائية العلمانية الدينية بجعل الشريعة مصدراً للتشريع (ضمن مصادر أخرى معروفة) على أن تتنزل عن طريق برلماني يجسد إرادة الأمة، أي ألا يباغتنا بها حاكم مزعزع مثل نميري أو حارقو مراحل مثل الإسلاميين في انقلابهم في ١٩٨٩.
متى صرنا إلى تنزيل الشريعة بطرائق البرلمانية سيزول الحاجز النفسي حيالها بين العلمانيين. فهذا الإجراء سيخلي وفاض حججهم عليها. فالشريعة هي تقليدنا القانوني الذي لا مندوحة منه. وأقباس عدالتها واضحة ومشرقة كما بينت في كتابي “الشريعة والحداثة”. فمن اعترض على بعض أنماط العقوبات فيها وجب أن يتذكر أنه لم تمنع غلظة القانون الروماني من أن يكون المرجع في بلاد تعد في أقاليم النور مثل فرنسا. وقد نبه الي ذلك بصفاء مولانا المرحوم مدثر الحجاز في مذكرة له عام 1956 يلتمس من لجنة الدستور اصطحاب الشريعة في عملها.
ماذا نعني بتنزيل الشريعة برلمانياً؟ من حسن الطالع أن لنا تجربة في هذا الخصوص كان بطلها الأستاذ على محمود حسنين النائب عن منطقة دنقلا في برلمان 1968. فقد تقدم للبرلمان بمشروع قانون لمحاربة البغاء استجابة لما ثار في دوائر في المجتمع من ضيق بالبغاء العلني كأثر استعماري. ويقف هذا القانون فريداً في بابه. فمن بين كل التشريعات التي تمسحت بالشريعة واستبدت كان قانون حسنين وحده الذي أجازه برلمان منتخب في قراءات عديدة.
وقدم له حسنين بمذكرة تفسيرية مخدومة مهنياً بصورة لافته أراد بها تأسيس قاعدة خلقية شرعية تستبدل القانون الاستعماري الذي شرّع للمسلمين في السودان كأمة لا خِلاق لها. فخلافاً لشرعنا لم يجرم القانون الوضعي تعاطي الرجل والمرأة الغريبين الجنس طالما وافقهما ذلك. وقال حسنين إن الانجليز في بلادهم لا يحرمون مثل هذا التعاطي للجنس إلا إذا داخله ثمن مقبوض. ولم يكترث الانجليز حتى بتضمين هذا الاحتراز في قانوننا، أو انهم لم يَجِدوا في تطبيق القانون بشدة حتى ازدهرت دور البغاء. وكانت نشأت أصلاً لراحة جنود الجيش الإنجليزي. ولذا ألزموها بقيود صحية منها الكشف الصحي الدوري على البغايا لسلامة الزبائن. ووجدت أخيراً كتابات للمرحوم محمود محمد طه من منتصف الأربعينات يصوب نقداً صارماً لتبذل الإنجليز بأخلاقنا. وسمى مواضع البغاء باسمها: أبو صليب.
ليس من بعد عرض التشريع على البرلمان، الذي السلطان فيه للشعب، وجه للاحتجاج على أي مشروع فكري ناهيك عن الإسلام. فحتى نحن الشيوعيين قررنا منذ مؤتمرنا الثالث (1956) أن يكون تنزيل الاشتراكية عن طريق البرلمان، بمعني قبولنا الصبر عليها حتى تلقى تشريعاتها القبول من الأمة. ولكن خرج علينا منا من سارع إلى الحكم متأبطاً بندقية والباقي تاريخ. من جهة أخرى، ستجد الترابي التزم بمفهومه بالشريعة البرلمانية في دستور 1998 حيث عقد، بعد تقرير أن الشريعة وإجماع الأمة هي مصادر التشريع (المادة 65)، للبرلمان اختصاص التشريع بقوله “يمثل المجلس الوطني الإرادة الشعبية في التشريع والتخطيط ومراقبة التنفيذ والمحاسبة، والتعبئة الاجتماعية والسياسية العامة” (المادة 73).
لقد ترك الترابي، مهما كان الرأي فيه، مفتاحاً لتجاوز ثنائية العلماني والديني. وبقول الفلاسفة جاءنا بتركيب لتجاوز الأطروحة (الدولة الدينية) والأطروحة النقيض (الدولة العلمانية). وهذا من علم الجدل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.