إِنْسَانٌ اِسْتِثْنَائِي!

0 59

كتب: كمال الجزولي 

.

الإثنَين
أوردت «سونا» أن وزارة الدَّاخليَّة أكَّدت، في بيانٍ صحفيٍّ، ألا عودة لقانون «النِّظام العام»، على العكس مِمَّا طالب به، مؤخَّراً، الفريق عيسى آدم، مدير شرطة ولاية الخرطوم، في لقاءٍ مع قناة الجَّزيرة، كما وجَّهت الوزارة رئاسة الشُّرطة بضبط خطابها الإعلامي، في نقدٍ واضح لتلك المطالبة التي أثارت غضباً واسعاً. ومن جانبها أكَّدت النِّيابة العامَّة أن «ذلك القانون قد ألغي بلا رجعة، ولم يعُد جزءاً من المنظومة التَّشريعيَّة»؛ كما اعتبرتها منظمة «حارسات» تعبيراً عن «حنين أنصار الإسلام السِّياسي لنظامهم البائد»؛ وأضافت: «تعلَّمنا من عهد السِّياط، والإذلال، أن المستبدِّين الذين يُنصِّبون أنفسهم أوصياء على النِّساء، هم أنفسهم الذين يسرقون المال العام، ويختطفون اللقمة من أفواه الفقراء، ويخرِّبون الصَّحَّة، والتَّعليم، ويلغون في دماء الأبرياء، ويدقُّون المسامير في رؤوس المعتفلين، ويُدخلون السِّيخ في أدبارهم، ولا يتورَّعون عن ارتكاب كلِّ مفسدة وهم يحوقلون، بعد كلِّ ذلك، باسم الدِّين وشرع الله»! وحيث أن البيانات والتَّوجيهات وحدها لم تكف، فإن أقلَّ ما توجَّبت معاملة ذلك التَّصريح الأخرق به هو إقالة صاحبه، أو مطالبته بالاستقالة، خاصَّة أن من آثاره الكارثيَّة تعرُّضَ بعض الفتيات، فعليَّاً، للجَّلد في الشَّوارع بسبب لبسهنَّ؛ وعند سؤال عيسى عن ذلك، أجاب قائلاً: «ما في زول بجلدوه بلا سبب»! غير أن القرار الذي صدر، فعليَّاً، هو نقل عيسى إلى الوزارة، وإحلال الفريق زين العابدين عثمان محله!
لقد استهدف ذلك القانون، بالعداء السَّافر، قيَماً اجتماعيَّة مرعيَّة، حيث ظلت الشَّكوى منه تنصبُّ على كونه يصادم جملة التَّصوُّرات الشَّعبيَّة للخير والشَّر، الصَّواب والخطأ، الجَّمال والقبح، الفضيلة والرَّذيلة، مِمَّا يرتِّب لنتائج كارثيَّة على التَّكوين النَّفسي الاجتماعي، في الوقت الذي لا تجد من يدافع عنه غير الرَّسميين، والقادة، والمحاسيب، والقوى الدَّاعمة للسُّلطة، كونه يحقِّق لهم أقصى ما يُبقي على وعي المواطنين رهن الخوف من هذه السُّلطة، طول الوقت! فمن أكثر الأوهام تضليلاً تصوُّر «القانون» قوَّةً خارجيَّةً فوق الجَّميع، وعلى مسافة واحدة من الجَّميع، بينما هو، في حقيقته، محض أداة طبقيَّة في يد الأقليَّة، تستخدمها لحمل الأغلبيَّة على ألا ترى إلا ما تراه هي! لذا يلزمنا التَّفريق بين «القانون والعدالة»، فالأوَّل مجرَّد نصوص يصوغها «دجَّالون سلطانيُّون» يوهمون النَّاس بأن الفضائل كلها تدور حيثمـا دارت هـذه النُّصـوص، فيتحـقَّق الحـقُّ بقانون، وينزهـق الباطـل بقانون، ويجيء الخير بقانون، ويذهب الشَّرُّ بقانون، ويتجلَّى الجَّمال بقانون، وينقشع القبح بقانون، وتسود الفضيلة بقانون، وتتراجع الرذيلة بقانون! أمَّا «العدالة» فواعز باطني، من صميم «الفطرة السَّليمة»، يوجِّه الضَّمائر نحو «القيَم الخيِّرة»، وينفِّرها من نقائضها. فـ «القانون»، والأمر كذلك، لا يكتسب شرعيَّته إلا باستشعار النَّاس، ذاتيَّاً، لواجب الالتزام به.
من هذا المدخل ننفذ للنَّظر في أكثر مواد قانون «النِّظام العام لسنة 1996م» عدواناً على «القيَم» المتَّصلة، تحديداً، بالموقف من المرأة، وإثنيَّات الهامش، ومراكز النَّشاط الثَّقافي، وحرِّيَّات الإبداع الموسيقي والغنائي. ففضلاً عمَّا أضيف إليه من مواد «القانون الجَّنائي لسنة 1991م» التي تلاحق حتَّى «الأزياء»، وتجعل من «تجريمها» سوط عذاب مسلَّط على الخلق، خاصَّة النِّساء، فإن «قانون النِّظام العام»:
(1) يحظـر إقامـة أصغر «حـفـل غنائـي عائلي»، ولو بأضعف «مكبِّر صوت»، مِمَّا يُستخدم ضمن أجهزة الاستماع المنزليَّة، إلا بشروطٍ، أوَّلها التـَّصـديـق الرَّسمي المقيَّد بساعة معيَّنة لإنهاء الحفل، والنَّصُّ على عقوبات، حالَ تجاوز هذه الشُّروط، تشمل السِّجن، والجَّلد، والغرامة، ومصادرة الآلات الموسيقيَّة، ومكبرات الصُّوت. وتبرِّر السُّلطة هذا العسف بحماية الجِّيران من «الإزعاج»، رغم كفاية تجريم «الإزعاج» في القانون الجَّنائي، ودون تحديد، على الأقل، لقوَّة مكبِّر الصُّوت المحظور، على غرار تحديد السُّرعة المسموح بها، مثلاً، في قانون المرور، كما ودون استصحاب حتَّى لتقديرات الجِّيران الذين يُدَّعى حمايتهم، دَعْ ما ينطوي عليه حشرُ أنف السُّلطة في مثل هذه العلاقات من ترخُّص مستقبح، واستهانة غليظة بقيمة الجِّوار نفسها في الثَّقافات السُّودانيَّة! هكذا يعتدي القانون، بحجر واحد، على جملة قيم ثقافيَّة تتعلق بحريَّة الإبداع، وحقوق الأسر، وخيارات حياتها، وخصوصيَّة الجِّوار، وذلك لتحقيق أهدافٍ أبعد ما تكون عن «الصَّالح العام»!
(2) ويحظر هذا القانون، بالمثل، إقامة أيَّة «فعاليَّة عامَّة»، خصوصاً إن كانت «موسيقيَّة غنائيَّة»، إلا بإذن من سلطات الأمن، وتصديقٍ من شرطة النِّظام العام، مع كلِّ ما يسبِّبه ذلك من عنتٍ للمؤسَّسات المعنيَّة بالنَّشاط الفكري، كمعاهد العلم، والمراكز والأنديَّة الثَّقافيَّة، وإعاقة مثل هذه الفعاليَّات، حتَّى لو اتَّخذت الطابع البحثي أو التَّثقيفي البحت! وقد حدث ذلك، بالفعل، لاتِّحاد الكتَّاب السُّودانيِّين، على سبيل المثال، إذ أعاقت هذه السُّلطات ندوة داخل داره للعالِم أحمد محمَّد الحسن (90 عاماً)، عضو الاتِّحاد، والأستاذ في معهد الأمراض المتوطِّنة بجامعة الخرطـوم، والحائز على لقب بروفيسـور مدى الحياة emeritus professor، وذلك حول ظاهرة «الزَّار»، ضمن ندوات الاتِّحاد في الباراسايكولوجيا، بدعوى اشتمالها على نماذج تطبيقيَّة للتَّرانيم، والإيقاعات، والرَّقصات!
(3) ومِمَّا تحظر هذه المواد، أيضاً، رقص النِّساء مع الرِّجال، ورقص النِّساء أمام الرِّجال، في الحفلات! هذا النص، فضلاً عن اشتماله على عدوان فظٍّ على قيـم اجـتماعيَّة وإنسـانيّة مرعـيَّة، فإنه ينطـوي، أيضـاً، على مفارقـات صـارخة:
أ/ فباستخدامه المطلق للفظي «رجال ونساء»، يصنِّف العلاقة الاحتفاليَّة، حتَّى الأسـريَّة، تصـنيفاً «جنسـيَّاً» بحـتاً، ويهدر قيمة أيِّ تصنيف آخر، كثنائيَّة «الأم ـ الإبن»، «الأب ـ الإبنة»، «الأخ ـ الأخت»، «الزَّوج ـ الزَّوجة»، دع علاقة الزَّمالة، أو حتَّى «الخطوبة»، مِمَّا لا تقرّه، قطعاً، ذهنيَّة التَّحريم التي أنتجت النَّص!
ب/ وبحظره رقص النِّساء «مع» الرِّجال، والنِّساء «أمام» الرِّجال، يشطب، في الواقع، مشهد النِّساء من أيِّ حفل يحضره رجال، أو يسمح لهُنَّ، في أفضل الحالات، بالجُّلوس ساكنات «يتفرَّجن» على رجال يراقصون .. رجالاً!
(4) كما ولا بُدَّ من أخذ الآتي في الاعتبار:
أ/ النِّطاق الجُّغرافي لسريان هذا القانون هو العاصمة القوميَّة التي شهدت، أوان صدوره، وما تزال تشهد، حركة نزوح كثيفة إليها من المناطق الرِّيفيَّة المهمَّشة التي يعاني مواطنوها من الفقر، مما يتَّسق مع دعاوي التَّنمية غير المتوازنة؛
ب/ المشرِّع ليس جاهلاً بالواقع الثَّقافي في هذه المناطق الرِّيفيَّة، حيث تشيع طقوس الاحتفاليَّات المختلطة، بما فيها الرقص المختلط؛
ج/ الاستنتاج الوحيد الرَّاجح، إذن، هو أن المشرِّع يفترض في العاصمة القوميَّة دولة أجنبيَّة يخضع زوَّارها لقانونها، وهذا ما أكَّد عليه، صراحة، وحرفيَّاً، ودون أدنى مداورة، مدير شرطة النِّظام العام، في تعقيبه على ورقةٍ حول الموضوع، كنَّا قدَّمناها، ذات سمنار، بمعهد التَّدريب القانوني بالخرطوم، أواخر تسعينات القرن المنصرم!
(5) هذا القانون يحظر، أيضاً، أداء الأغاني «الهابطة!»، ويخوِّل الشُّرطة في إزالة «المخالفة!»، بسلطة مطلقة لتقدير هذا «الهبوط»! هكذا اختزل المشرِّع مجمل تاريخ الجَّدل الفلسفي حول ظاهرة الإبداع، كنشاط إنساني متميِّز، من أهمِّ دروسه وجوب النَّأي به عن أيَّةِ محاكمة خارج معايير النقد والتذوُّق. محاولة إلغاء هذه المعايير، واستبدالها بنفوذ السُّلطة السِّياسيَّة، وأجهزة قمعها، تمثِّل هدماً للطاقة الإبداعيَّة ذاتها! فالمشرِّع يُنصِّب «البوليس» ناقداً أعظم لا رادَّ لأحكامه التي تصدر، بالضَّرورة، عن تصوُّرات ذاتيَّة تزعم لنفسها كمال التسلُّح الخُلُقي، بينما تنفيه عن المبدع، شاطبة، بجرّة قلم، أيَّة جدوى لمعايير العلم والمعرفة التي تمثِّل أنضج ثمار الجُّهود التي ما انفكَّ يبذلها حملة مشاعلها عبر كلِّ التَّاريخ الإنساني، دَعْ ما ينطوي عليه ذلك من تهديد لثراء المفاهيم، والأخيلة، والأمزجة الفنيَّة، ولتنوُّع طرائق التَّعبير المختلفة، وأساليبها في شتَّى اللغات واللهجات السُّودانيَّة، مِمَّا يمحق هذه القيم، ويُخضعها لمعياريَّة الأيديولوجيا الطبقيَّة السَّائدة، ويفرِّق دمها بين شتَّى قبائل الجُّند المجيَّشين لتطبيقها، بمخـتـلف معـياريَّاتهم الشَّـخـصـانيَّـة، الثَّقافـيَّة والسَّـايكـولوجـيَّة!

الثُّلاثاء
اللعنة على «الواتساب»، فقد «اخترع» أحد «شياطينه»، الأسبوع الماضي، خبراً عن قبول السُّودان وإثيوبيا تقرير الشَّركتين الاستشاريَّتين الفرنسيَّتين حول آثار سدِّ النَّهضة، بينما رفضته مصر، بزعم أن الخرائط المرفقة به أظهرت «مثلَّث حلايب وشلاتين» ضمن حدود السُّودان!

الأربعاء
لا أملك إلا أن أتَّفق مع الصَّادق علي النور، النَّاطق الرسمي لجيش تحرير السُّودان (مناوي)، في دعوته لإبعاد كلِّ القوَّات العسكريَّة إلى خارج الخرطوم، وليس الحركات المسلَّحة فقط، و .. قطعاً هذه لغة أفضل، ألف مرَّة، من لغة «الخرطوم دا بتاع أبو منو»!

الخميس
حكاية «السَّمين والنَّحيف»، لهرم السَّرد والمسرح الرُّوسيَّين أنطون تشيخوف، تُعتبر من روائع الأدب العالمي، كتبها عام 1882م، وترجمتُها عن الرُّوسيَّة، قبل سنوات طوال، وأهديت التَّرجمة إلى روح الحبيب الرَّاحل عبد الرَّحيم أبو ذكرى، فلطالما فُتِن كلانا بتشيخوف، ضمن من فُتنَّا بهم من أيقونات الإبداع في هذه اللغة العظيمة. وكان أن صار تشيخوف مدخلنا إلى عوالم عزيز نيسين التُّركي، وبشرى الفاضل السُّوداني. وعلى الرُّغم من تواتر ترجماته إلى العربيَّة، فقد بدا لي، دائماً، أن ثمَّة خللاً يلازمها من حيث اعتمادها الفصحى كليَّاً، في حين أن مزيج الفصحى والدَّارجة هو الأقرب، عندي، إلى نقل الرُّوح الذي لطالما صاغ به ذلك الهرم الكبير شعريَّة السَّرد والحوار معاً. كتب تشيخوف:
فى محطة السِّكَّة حديد بمدينة نيكولاي، تقابل، فجأة، اثنان كانت تربط بينهما، في الماضي، علاقة صداقة، أحدهما سمين والآخر نحيف. السَّمين كان قد فرغ، لتوِّه، من تناول غدائه بمطعم المحطة، فكانت شفتاه اللتان تبدوان مطليَّتين بطبقة دهن تلمعان ككرزتين يانعتين، ومن أعطافه تفوح، كانت، رائحة نبيذ ونكهة حلوى. أما النَّحيف فقد نزل، كان، لتوِّه أيضاً، من إحدى عربات القطار، محمَّلاً بشُنط، وصُرر، وكراتين تفوح منها روائح زوادة بيتيَّة من فخذ الخنزير المملَّح، وثُفْل القهوة، وخلفه امرأة نحيفة، مستطيلة الذقن، زوجته، وتلميذ طويل القامة، ضيِّق العينين، إبنه.
ــ «بورفيري»؟! هتف السَّمين؛ «أصلو ما بصدِّق! بالأحضان! عاش مين شافك يا رجل»!
ــ «ميشا»؟! صاح النَّحيف مبهوراً؛ «صاحبي القديم؟! يا سلاااااام .. وين أراضيك»؟!
تعانقا ثلاثاً، وقد ترقرق في مآقيهما الدمع، وهما مأخوذان بالمفاجأة السَّعيدة.
ــ «لا حولا ..»! صاح النَّحيف، بعد العناق، متهلِّلاً، «لكين جنس مفاجأة! كدي كدي عايـن لي جـاي! إيه الحـلاوة دي كلهـا يا صاحبي! والله ياكا ذاتك ميشا بتاع زمان ما اتغيَّرت أصلو! لسه سارح بدلالك! يا ود يا ود .. إيه القيافة دي كلها! أها بالله عامل كيف؟! غِنيت ولا عرَّست؟ أنا غايتو عرَّست زي ما إنت شايف .. ودي زوجتي لويزا، إسمها لجهة عائلتها فانتصينباخ .. بروتيستانتيه، وده ياسيدي إبني نافانايل .. تلميذ فى سنة ثالثه .. يا نافانيا تعال سلم على أعز أصدقاء طفولتي .. كنَّا في المدرسة سوا»!
نافانايل فكر برهة، ثم خلع قبعته.
ــ «كنَّا في فصِل واحد»! واصل النَّحيف: «تتذكر كيف كنا بنغيظك؟! لقبناك بهيروستراتوس لمَّا حرقت دفتر الحضور والغياب بالسِّجارة .. ها .. ها، وأنا لقبونى بافيلاتوس لأنى كنت قوَّال .. ها .. ها، يا سلام ياخي .. دنيا! ما تخجل يانافانيا .. تعال قريب .. ودي يا صاحْبي زوجتى .. إسمها، لجهة عائلتها، فانتصينباخ .. بروتيستانتيَّة»!
فكر نافانايل برهة، ثم اختبأ خلف ظهر أبيه.
ــ «كيف الأحوال بالله»؟! قاطع السَّمينُ النَّحيفَ، محدِّقاً فيه بابتهاج؛ «أها .. وشغَّال شنو .. وللا نزلت المعاش”؟!
ــ «أبداً .. فى الخدمة لسَّه، محكَّم هيئة، أدوني شارة ستانسلاف السَّنة الفاتت .. ماهيَّتهم تعبانة، لكين الله في .. زوجتي بتدِّي دروس خصوصَّية في الموسيقي .. وأنا بعد الشُّغل بعمل علب سجاير خشبيَّة .. علب تمام! ببيع الواحدة بروبل .. والبياخد عشرة علب وأكتر عنده تخفيض خاص .. أهو جاي جاي بنمشِّي الحال، والرِّزق تلاقيط. كنت فى الرِّئاسة، ودلوقت نقلونى هنا رئيس مكتب تبع إدارتنا ذاتا، فحأستقر هنا .. وانت، يا خوي، كيف؟! مستشار حكومي أظنك»!
ــ «يعني .. فوق حبَّة»! أجاب السَّمين؛ «ضابط أمن .. عندى دلوقت دبُّورتين»!
بغتة .. شحب وجه النَّحيف، وامتقع لونه، وارتعدت أوصاله، وساخت مفاصله، وتجمَّد الدَّم في عروقه، لكنه غالب نفسه، فالتوى وجهه بأعرض ابتسامة في الكون كله، مثلما راح رأسه يشعُّ بالسُّخونة. أما جسده فقد تقفَّع، وتحدَّب، وتضيَّق، وتجمَّع. وأما شنطه، وصرره، وكراتينه، فقد تكمَّشت، وتعوَّجت .. صار ذقن زوجته الطويل أطول .. وانحنى ابنه نافانايل .. وتمطَّط، وزرَّر جميع أزرار سترته المدرسيَّة. وما لبث أن صدر عن النَّحيف صوتٌ كالفحيح:
ــ «أنا يا معاليك، يعني، في غاية الفخر، يعني، إذا جاز التَّعبير، والله، يعني، كونه صديق .. صديق طفولة، إذا جاز التَّعبير، يعني، يبقى، يعنى، كـِدَا، هئ .. هئ .. هئ .. وكـِدَا»!
ــ «ياراجل»! برطم السَّمين؛ «إيه الكلام الفارغ دا؟! نحن بيناتنا صداقة عمر ياخي، فإيه لزوم الرَّسميَّات دي»!
ــ «أستغفر الله .. أستغفر الله .. ياسعادتك»! تمتم النحيف بحلق يابس، وقد ازداد انكماشاً؛ «دا بس، والله، من تواضعكم الجَّم .. لكين، يعني، مهما كان .. العين ما بتعلا على الحاجـب، والله، يعني، اهتمامكم بَيْ دا، يا معاليك، يعنى، زي البلسم، والله العظيم، و .. يعنى .. لو سمحتم، يا فخامتكم، يعني، أقدِّم ليكم إبني نافانايل، يعني، وزوجتى لويزا .. بروتيستانتيَّة نوعاً ما»!
للوهلة الأولى بدا كما لو أن السَّمين أراد أن يقول شيئاً، لكنَّ وجه النَّحيف، بما ارتسم عليه من أمارات التَّبجيل، والإجلال، والنَّشوة، والانكسار، والتَّوقير، جعله يشعر بالرَّغبة في القئ، فأشاح عنه بوجهه، بل بجسده كله، ومدَّ له يده، من وراء ظهره، يودِّعه! صافح النَّحيف ثلاثة أصابع فقط، وهو يحني جزعه حتى كاد يلامس الأرض بجبينه، ويمـوء بالتَّضـاحك مثل رجـل صـينى «هئ .. هئ .. هئ»! أما زوجته فقد رسمت على شفتيها ابتسامة لزجة! وأما نافانايل فقد ضرب الأرض بقدمه حتَّى أسقط قبُّعته! وكان ثلاثتهم مأخوذين بالنَّشوة والرَّهبة معاً!

الجُّمعة
السَّيِّد الصَّادق عبد الرحمن سمل، والد الشَّهيد عبد الرحمن، إنسان استثنائي، تنضح نفسه بفيض من الخير، ويرفرف قلبه بجناحين من المحبَّة. قال قولاً في «التَّسامح» تفوَّق به حتَّى على نلسون مانديلا وجاك دريدا، لا لأن أحداً يملك أن يزايد عليهما، لكن لأن أحداً منهما لم يذق، شخصيَّاً، ما ذاق هو من احتراق فلذة الكبد، أو اختناق حُشاشة الرُّوح، مِمَّا لا يعرفه إلا من مشى على الجَّمر بقدمين حافيتين، ومع ذلك داس على أوجاع القلب، وارتقى ضريح الابن الشَّهيد، ومن حوله ما يفتأ يتصاعد الهتاف: «الدَّم قصاد الدَّم ما بنقبل الدِّيَّة»، ليرتفع صوته الجَّهير قائلاً، في تعظيم «العدالة الانتقاليَّة»، ما لم تقله أيَّة بلاغة، مهما سمت أو تعالت، وبأيَّة لغة، بالغاً ما بلغت من النَّصاعة والإفصاح، قال:
«إن من يختار السَّلام لا يَقتُل، بل يدفع حياته لتصير حياة الآخرين أفضل، والذي يختار هذا الطريق يرى القاتل، في قمَّة ما عليه من جبروت وقسوة، أكثر منه ضعفاً وبؤساً؛ ولو خيَّروني فإنه لا ضير عندي في أن أذهب إلى القاتل في تمام حزني ووجعي، لأضمن أن يتوقَّف القتل في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها! وهنا أتمنَّى ألا يزايد عليَّ أحدٌ أيَّاً كان. وإن فعل، فأنا لا أنظر إليه، قدر ما أضع نصب عينيَّ أن ما بداخلي من وجع وألم لفقدان ابني هو شيء لا يجب أن يمرَّ به أحدٌ في هذه البلاد. لا ضير إن فعلت الحركة السِّياسيَّة ذلك، ولا خيانة، هنا، لدماء الشُّهداء، بل الخيانة، إن لم تفعل، لِحقِّ الآخرين في الحياة! أخلاقيَّاً، يلزم الحركة السِّياسيَّة أن تقبل أيَّة مبادرة توقف قتل إنسان هذه البلاد، أولاً، وتحرص، من ثمَّ، على بناء كلِّ المؤسَّسات العدليَّة التي تضمن للناس حقَّهم في الحياة، فالمؤسَّسات العدليَّة هي الضامن الوحيد لحقوق النَّاس، سياسيَّة كانت، أو اقتصاديَّة، أو اجتماعيَّة»!

السَّبت
إقتضتنا الموضوعيَّة الإقرار الجَّهير بأن «إعلان المبادئ» الذي أبرمه البرهان والحلو بجوبا في 28 مارس 2021م هو، بكلِّ المعايير، خطوة في الاتِّجاه الصَّحيح كانت تحتاجها بلادنا منذ أزمان. ولو كانت هذه الخطوة قد افترعت مفاوضات «سلام جوبا» الذي كان من أهمِّ نواقصه غياب حركتي الحلو وعبد الواحد عنه، لاختلف، تماماً، تقييمها، وما نجم عنها من اتِّفاق! مع ذلك ينبغي، أيضاً، ولذات المقتضى الموضوعي، ألا نغفل ملاحظات أساسيَّة، أهمُّها ثلاثٌ: الأولى أن في توقيع البرهان باسم «الحكومة» انتحال لإحدى أهمِّ صلاحيَّاتها؛ والثَّانية أن «مباركة» مجلس الشُّركاء لهذا «الإعلان» توعز بقيُّوميَّة غير مستحقَّة لهذا المجلس على «الحكومة»؛ أمَّا الثَّالثة فهي أن مواصلة حمدوك الصَّمت على هذه التَّجاوزات قد تُدرجه، هو أيضاً، في دائرة المشاركة في تدبيرها، والمسؤوليَّة عنها .. لماذا؟! ربُّك يعلم!

الأحد
سُمِعَ أحد الحُجَّاج المصريِّين يتمتم، عند الجَّمرات، قائلاً: «بُص يا إبليس، أنا لا جاي أضربك، ولا جاي أشتمك، بسِّ همَّا كِلمِتين حطُّهم حلقة في ودانك: سيبني فْ حالِي، وحاسيبك في حالك»!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.