السودان.. المواطنة وفصل الدين عن الدولة
كتب:بابكر فيصل
.
مرت الحضارة الغربية بمخاض طويل استمر لمئات السنين حتى استطاعت أن تخرج من ظُلمات العصور الوسطى وتسلط الكنيسة ورجال الدين إلى عصر الأنوار والعلوم والنهضة التي لم تجن ثمارها لوحدها، بل امتدت منافعها لتشمل الإنسانية جمعاء وكان على رأس تلك المنافع مبادئ الدولة الحديثة وأنظمة الحكم.
قد كان من بين ثمار ذلك الانتقال ظهور “مبدأ المواطنة” كأساس تنبني عليه الحقوق والواجبات في الدولة بعد أن كانت تلك الحقوق تقوم على علاقة نابعة من روابط الدين والعرق والطبقة الاجتماعية، وبالطبع فإن ذلك المبدأ لم يجد سبيله إلى التطبيق بين عشية وضحاها، بل عبر تراكم طويل من التجارب والتحولات المجتمعية.
ومن ناحية أخرى، فإن ذلك المبدأ المرتبط بنظام الحكم الديمقراطي بملامحه المعروفة والمشتملة على مبادئ التداول السلمي للسلطة والمنافسة الحرة وفصل السلطات وغيرها لم يعد قاصراً على الدول الغربية، بل أصبح توجها كونيا تنصُّ عليه العهود والمواثيق الدولية وتقبل به مختلف الدول في جميع قارات العالم.
في كلمته التي ألقاها خلال حفل توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، قال رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان أن (التوقيع على هذا الاتفاق سيقود إلى تأسيس دولة المواطنة التي يفتخر بها جميع السودانيين بلا تمييز على أساس اللون أو الجهة أو العرق).
من المعلوم أن مختلف تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين قد شنت هجوما ضاريا على إعلان المبادئ المذكور بسبب حثه على ضرورة فصل الدين عن الدولة وهو الأمر الذي رأت فيه تلك التيارات حربا على الإسلام!
إذا كان مبدأ المواطنة يمثل جواز المرور إلى قيام الدولة الديمقراطية الحديثة فإن الأسس التي يقوم عليها البنيان الفكري للإخوان المسلمين تخالف هذا المبدأ جوهريا، وقد تضطر الجماعة تحت الضغط السياسي إلى إعلان قبولها به على سبيل التقية، وهو الأمر الذي شهدناه خلال تجربة حكمها للسودان طوال ثلاثة عقود.
التوجه الجوهري في هذا الأمر هو الذي سطره المرشد المؤسس، حسن البنا، في “رسالة التعاليم” بقوله: (والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي).
وقد تردد صدى كلام البنا أعلاه فيما بعد في حديث للمرشد الخامس للجماعة في مصر “مصطفى مشهور” الذي عبَّر في لحظة صدق نادرة عن قناعات الجماعة عندما قال أنه (يجب على الأقباط أن يدفعوا الجزية بديلاً عن عدم التحاقهم بالجيش، بالنظر إلى أن جيش الدولة الإسلامية هو عماد الدولة، ولو حارب دولة مسيحية فيمكن أن ينحاز المسيحيون الذين في صفوفه إلى جيش الأعداء).
في مناظرته الشهيرة مع مؤسس الحزب القومي السوداني، فيليب غبوش، عام 1968 بالبرلمان قال زعيم الجماعة الراحل الدكتور حسن الترابي أنه لا يحق لغير المسلم تولي منصب رئيس الجمهورية، ولكنه عاد في وقت متأخر (تسعينيات القرن الماضي) وأقر بقبول مفهوم المواطنة ليس من باب الإيمان المبدئي، ولكن بطريقة ذرائعية أساسها أن المسلمين في السودان أغلبية ولا يمكن أن ينتخبوا شخصاً غير مسلم ليرأسهم.
يتبين هذا الأمر بصورة جلية من خلال مناهج التعليم التي تم تدريسها طوال فترة حكم الإخوان المسلمين للسودان، وهي مناهج تم استحداثها بالكامل بعد إلغاء المناهج السابقة وذلك في إطار ما عُرف ببرنامج الأسلمة والتوجه الحضاري الذي شمل مختلف المجالات الثقافية و السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، جاء في صفحة (69) من كتاب “الدراسات الاسلامية” للصف الثاني الثانوي تحت عنوان “شروط تولي القضاء” ما يلي: (لا يلي القضاء من يطلبه حرصاً عليه إلا من توافر فيه الشروط التالية: الاسلام: فلا يجوز أن يلي قضاء المسلمين والدولة المسلمة غير المسلم).
كما جاء في نفس الكتاب صفحة (71) تحت عنوان “كيفية التعامل مع الدولة القائمة على المواطنة” ما يلي (ولغير المسلمين في الدولة بحكم المواطنة المشاركة في الأمور كلها التي لا تخص المسلمين فقط كالولاية العامة لأنها تفرض على المسلمين أن يلتزموا بأحكام الشرع في المسؤولية العامة، ولا شك أنه من مصلحة غير المسلمين أن يكون التعامل على عقد يقوم على الدين فإن ذلك أدعى لإنصافه).
نحن هنا بإزاء منهج دراسي يسير على خطى الأفكار التي خطها يراع المرشد المؤسس، فهو يُعلَّم التلميذ أن الشرط الرئيسي لتولي القضاء هو الإسلام إذ لا يجوز أن يتولى غير المسلم أمر القضاء في الدولة المسلمة، ومن نافلة القول أن من لا حق له في تولي القضاء لن يستطيع شغل الولاية الكبرى (الرئاسة).
الأهم من ذلك هو أن المنهج يقول بوضوح شديد أن العلاقة في الوطن يجب أن تنبني على “عقد ديني” ذلك لأن الأخير – بحسب زعم المنهج- فيه إنصاف لغير المسلمين، وهو بذلك ينسف الأساس الذي تقوم عليه الحقوق والواجبات وتتأطر من خلاله العلاقة بين جميع المواطنين في الدولة المدنية الحديثة وهو “المواطنة”.
إذاً، جوهر المشكلة يتمثل في موقف الإخوان من الدولة الحديثة والمبادئ التي تقوم عليها، وهو الأمر الذي أجلاه بصورة كبيرة الأستاذ المحبوب عبد السلام، وهو أحد تلاميذ الدكتور الترابي الذين قاموا بإجراء مراجعات جذرية لموضوع العلاقة بين الدين والدولة، والذي قال إن (من مبادئ الدولة الحديثة المساواة أمام القانون، وأنها تقبل التعدد وحقوق الانسان كلها، مهما كان التعبير ولو كان كفراً)، وأوضح أن فكرة المواطنة لا يمكن قبولها (في إطار الشريعة التقليدية) وأن الأمر يحتاج (لجهد كبير جدا فيما يتعلق بتجديد الفكر الديني).
لن تتمكن المجتمعات الإسلامية عموما، وليس السودان فحسب، من اللحاق بركب العصر وتخطي حالة الجمود والتراجع الحضاري إلا بإحداث اختراق كبير في “العقل” الذي تم إغلاقه منذ عدة قرون، وبتجاوز مفاهيم العصور الوسطى البالية التي ظلت تسيطر على الفكر الإسلامي وتوجه مساره، وتلك المهمة تبدو صعبة في ظل سيطرة المدارس الإسلامية المنغلقة على المشهد الثقافي والفكري في تلك المجتمعات.