الماركسية: ناقصة كم صفحة 

0 68

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

  عاد التحالف اليساري بقيادة الحزب الشيوعي (الماركسي) إلى الحكم في ولاية كيرالا الهندية (٣٥ مليون نسمة) بعد فوزه بتسع وتسعين مقعداً من برلمان ذي مائة وأربعين مقعداً في الانتخابات التي أعلنت نتيجتها في ٢ مايو. وهو التحالف الذي ظل يحكم الولاية العقود سقطت فيه نظم اشتراكية بنت حفرة ولم تقم نظم. وهزم التحالف حزب مودي الهندوكي الحاكم في المركز والمؤتمر الهندي وحده. وما احتاج سوى أن يدير أمره كأن شعبه والماركسية من ذوات المعنى والأسر. وهي تجربة فريدة لا في تبنيها الطريق البرلماني للاشتراكية مثل شيلي الليندي فحسب بل في حفاظها المر على وعد الاشتراكية لشعبها. يكفي أن برنامج التحالف للانتخابات التزم باعتماد عمل المرأة المنزلي عملاً تُجزى عليه النساء الراغبات في التفرغ له. ولا أعرف أنهم لوحوا بسيدوا أو احتاجوا لها. وهذه كلمة من ٢٠١٣ عن الذين انتهزوا سانحة تهاوي الاتحاد السوفياتي ليحكموا بأن الماركسية “بوشت”.

 

من أكثر الحجج في استدبار الماركسية “بلهاً” تلك التي تقول ياخي هي سقطت في بلدها ذاتها وانتو عاملين مقددنها وأنا ماركسي وما أدريش لون. ومركز بلاهة الحجة أنه لا بلد للماركسية. ونذكر أن الحزب الشيوعي عندنا شق الجيوب وأفتعل “المناقشة العامة” لتقييم موقفه من الماركسية بعد سقوطها المدوي في الاتحاد السوفيتي. وكنت أقول لهم هل أصبحتم ماركسيين لخاطر السوفييت أم أن لكم “ثأراً” اجتماعياً خاصاً بكم ربما كان ساقكم إليها بالدفع الذاتي؟ بل ربما ألهمكم هذا “الثأر” الثوري لاختراع الماركسية حتى لو لم يجيء بها ماركس. وأضيف أنكم لو كانت ماركسيين إعجاباً بالسوفيات فأنتم في عداد التابعين إن لم تكونوا من العملاء لهم. وأما إن كانت ماركسيتكم لوجه شعبكم وكادحيه فدا الكلام.

لم أجد دليلاً على شيوع الماركسية مثل ما وجدت في نعي البروفسيرة جين أنيون، أستاذة سياسات التربية بجامعة مدينة نيويورك المنشور بالنيويورك تايمز (30 سبتمبر 2013).

فهي تدين صريحا بالفضل لماركس في منهجها الذي يتقاطع فيه التعليم مع الاقتصاد مع السياسة مع الأخلاق. وتنبه التربويون لقوة عارضة منهجها أول مرة بعد نشر مقاله لها عام 1995 (وهو عام التنكر العظيم للماركسية، قالت فيها إنه لا فكاك لإصلاح التعليم من إصلاح المجتمع. وكان من سبقوها ينظرون إلى مشاكل مدارس باطن المدينة (مساكن السود وفقراء المدن من كل قبيل) في حد ذاتها ولكنها جادلت بأن تلك المشاكل مجتمعية في المقام الأول. وطورت فكرتها هذه في كتابها “مدارس الغتو: الاقتصاد السياسي لإصلاح مدارس البندر” (1997). والغتو الذي أرادت به بواطن المدن الأمريكية راجع إلى أحياء اليهود الذين اعتزلهم الناس في أوربا.

وعرضت في الكتاب نتائج عمل قامت به في ولاية نيوجرسي لتأهيل مدارس فاشلة فيها. فشمل عملها ثلاث حزم من المدراس: مدارس الغيتو للطبقة العاملة، ومدارس لتلاميذ من الطبقة الوسطى، ومدارس الصفوة الحظية العليا. ونظرت في الواجبات المقررة على التلاميذ وتوقعات المدرسة منهم. فوجدت أنه غير منتظر من تلميذ الطبقة العاملة غير إتباع النهج بلا تشجيع لتحليله. بينما تنتظر مدارس الطبقة الوسطى أن يأتي التلاميذ بالإجابات الصحيحة. أما مدارس الطبقة الحظية فهي تنمي الملكة للتحليل الفكري. وهذه الفروق تعيد إنتاج الانقسام الطبقي القائم.

لا خلاف أن تحليل أنيون طبقي حتى النخاع. ولا تعتذر عنه. فصدر لها في 2011 كتاب صغير عن “ماركس والتعليم”. وقالت فيه إن جيلها من تربويّ السبعينات (ممن تسمت مدرسته الفكرية بالماركسية الجديدة) اكتشف ماركس الذي زودهم بالمفاهيم والمصطلح والمنهج لتجديد النظر في مسألة التعليم. كانوا قد وعوا أن التعليم ليس ظاهرة محايدة لأن مناشيء جذوره في الاقتصاد والأخلاق والسياسة. فأَمَنهم الرجل على سداد نظرتهم. وعرض الكتاب لمدرستها ورفاقها في أوربا وامريكا لتكشف عن عظم دينهم لماركس. ونوه الكتاب بالذات بتأثير أوربيين ماركسيين من المدرسة الثقافية عليهم مثل بيير بوردو الفرنسي وريموند وليامز الإنجليزي وأنطونينو قرامشي الإيطالي.

صارت الماركسية تقليداً ثقافياً مشاعاً بما يجدد كلمة ماركس نفسه بأنه من المؤكد أنه ذات نفسه ليس ماركسياً. وسميتُ هذه الماركسية على الشيوع مرة ب”ماركسية موت المؤلف”. فالنظرية لم تعد تبدأ وتنتهي بحزب ما حصراً وحرام إلا على من دخله. فلا أعرف إن كانت البروفسيورة عضواً في حزب من هذا القبيل أو أنه خطر دخولها له على بالها. ولكن البصمة التي تركها شغلها في سياسات التعليم بأمريكا (التي أسقطت السوفيات) معلومة ومشكورة. فأمريكا لا تستنكف تدريس الماركسية في مناهجها لعلوم الاجتماع والثقافة. فكتاب ماركس “الثامن عشر من برومير” أيقونة المناهج فيها. وخلافاً عن ذلك فبعض دوائر أمريكا المؤثرة لم تتصالح بعد مع تدريس الدارونية.

الماركسية كغيرها من النظريات الكبرى لا تتبخر هكذا. ولن نصحو يوماً لنجدها مرمية في سلة مهملات التاريخ. ومن أطرف ما سمعت عن عوارها نادرة متداولة بعد ثورة اكتوبر 1964. فقد كان كثر الجدل حولها لدور الحزب الشيوعي في الثورة والخصومة الشديدة له. وكان هناك من جلسوا حول مكروه بينما كان أحدهم يرغي عن الماركسية وفسادها. وضاق الحضور به ذرعا كما هو متوقع. فسمعه أحدهم يقول في رغيه إن الماركسية نظرية ناقصة. فأوقفه قائلاً: “يا أخ تفتكر ناقصة كم صفحة؟”

وقاموا إلى قلة فكرهم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.