مقتلة 29 رمضان -شهادتي للتاريخ!

0 72

كتب: د. محمد جلال أحمد هاشم

.

حادثة إطلاق النار أمس كان عشرات الآلاف شهودا عليها وأنا منهم. الذين فتحوا النار هم عساكر الجيش الذين منعوا الثوار من الوصول إلى موقع الاحتفال قبل الإفطار. ثم عندما تقاطرت جموع الثوار قبل الإفطار بقليل، تمكنت من كسر حاجز العسكر ودخلوا على المنطقة التي تقع ما بين تقاطع شارع الجامعة مع شارع الطابية إلى كبري الحديد، ثم شرقا باجتياز كبري النفق إلى امتداد شارع الجامعة مع تقاطع شارع الخدمات الصحية لجامعة الخرطوم. في هذه المساحة الصغير. قامت قوات الجيش بتطويق جموع الثوار المحتفلين تطويق السوار بالمعصم، مضيقين الخناق في كل لحظة وأخرى وهم يحملون الرشاشات والعصي وخراطيم المياه. وقد كان هذا الموقف مستفزا بدرجة كبيرة نجمت عنها احتكاكات ومدافعات وملاسنات بين صفوف الثوار من جانب وصفوف قوات الجيش من جانب آخر. لقد كان واضحا للجميع أن قوات الجيش قد تم نشرها في هذه المنطقة لتعمل عمل قوات شرطة مكافحة الشغب، هذا دون أن تكون مهيأة لأداء هذه المهمة التي لا علاقة لها البتة بمهام القوات المسلحة.

بمجرد الفراغ من قراءة خطاب تجمع أسر الشهداء من على المنصة التي أقيمت بمحازاة مبنى مدرسة التدريب المهني بامتداد شارع الجامعة شرقي النفق، تحرك جنود القوات المسلحة نحو حشود الجماهير، مطالبةً لها بمغادرة المنطقة فورا دون أن تترك هذه المهمة للجهات المنظمة للاحتفال. وقد استجابت لهم الجماهير التي كانت تقف حول منصة إلقاء الخطاب بطواعية وشرعت الجهات المنظمة في تنبيه الجماهير لمغادرة المنطقة، هذا وجنود الجيش يجوسون وسطهم بأسلحتهم وعصيهم وهراوات خراطيم المياه لحملهم على مغادرة مكان الاحتفال فورا وبلا تأخير، غير سامحين لمن كانوا يحتسون القهوة والشاي بإكمال مشروباتهم فيما بدا واضحا للجميع أنه سلوك ينمُّ على نيّتهم المبيّتة على فض هذا التجمع عبر استفزاز الثوار ودفعهم دفعا للاستجابة إلى هذه الاستفزازات. إلا أن جموع الثور، استجابةً لتوجيهات الجهات المنظمة، لم تستجب لتلك الاستفزازات وغادرت مواقعها إلى شارع النيل عبر طريق الخدمات الصحية لجامعة الخرطوم. وبينما كانت هذه الجموع تدخل شارع النيل وغالبيتها لا تزال في الزقاق الضيق الذي يقع ما بين داخلية النشر في البركس ومستشفى العيون تناهت إلى أسماعهم أصوات الرصاص والقنابل الصوتية والمسيلة للدموع وهي تأتي من جهة الغرب، أي من جهة شارع الطابية أسفل كبري الحديد. وكان هذا بالضبط ما حدث هناك!

فهناك في شارع الطابية، أسفل كبري الحديد نزولا إلى تقاطع شارع الطابية والجامعة وبأعلى كبري النفق، ليس فقط لم تكن الجهات المنظمة للاحتفال (القابعة شرق النفق أمام بوابة مدرسة التدريب المهني) قد مُنحت الفرصة لتنبيه باقي الثوار لمغادرة موقع الاحتفال، بل تم منعها أصلا من أن تصل إليهم. وقد تفاجأ هؤلاء الثوار الذين كانوا يقفون غربي النفق وبأعلاه صعودا إلى كبري الحديد بجنود القوات المسلحة يتقدمون نحوهم ويصطدمون بهم بطريقة استفزازية ودون مقدمات. إذ يبدو أنه كان هناك اتفاق مسبق بين جنود القوات المسلحة لتفريق حشود الثوار بالقوة بمجرد الفراغ من إلقاء الخطاب. هنا حدث الاصطدام! وقد تبادل الطرفان التراشق بالحجارة التي، بالطبع، انتصرت فيها القوة العددية للجماهير، ثم أعقبها إطلاق القنابل المسيلة للدموع وربما القنابل الصوتية وخلالها سُمع صوت زخات كثيفة لحوالي الثلاث مرات من الرصاص الحي. وبحسب رواية الشهود، فقد فُتحت النيران عبر التنشين والتهديف بموجب طريقة مسك البندقية والاتكاء على الركبة أو رفع البندقية إلى مستوى الرأس. لهذا لم تجد حشود الثوار التي كانت متجمعة ما بين تقاطع شارعي الطابية والجامعة أسفل النفق صعودا إلى كبري الحديد بُدُا من التوجه عبر جسر الحديد إلى بحري أو النزول إلى شارع النيل عبر المزلقان شبه الدائري الذي يربط شارع النيل بشارع الطابية والكوبري. وهذا يعني أن جماهير الثوار قد أخلت منطقة التجمع تماما. إلا أنه وبرغم هذا، استمر جنود قوات الجيش في مطاردتهم واستهدافهم عبر ضربهم بالعصي والهراوات بجانب حصبهم بالحجارة، دون أن يتوقفوا عن إطلاق القنابل الصوتية والمسيلة للدموع، وما تخللها من إطلاق نيران الذخيرة الحية.

في شارع النيل انقسمت جموع الثوار فاتجه بعضهم غربا نحو الخرطوم، بينما اتجهت غالبيتهم شرقا نحو كبري برّي يطاردهم جنود القوات المسلحة حتى وزارة التربية والتعليم.

وهكذا سقط الشهيدان ومئات الجرحى في عملية تشبه فض الاعتصامات الأول.

ختاما؛

هذه شهادتي كشاهد عايش أحداث الأمس، أقدمها بلا تحليل لمجمل الحدث. وهذا ما سنعكف عليه في مقبل الأيام لمناقشته، تحديدا لماذا لم توجه منظمة أسر الشهداء في خطابها أمس الاتهام إلا لحميدتي وشقيقه بجانب جنجويدهما (على أكيد تورطهم في جريمة فض الاعتصام الأولى)، مستثنين لجنة البشير الأمنية (المجلس العسكري) وهم الذين اعترفوا في خطاب “حدس ما حدس” بأنهم هم الذين اتخذوا قرار فض الاعتصام؟ هذا بجانب استفهامنا لاستثناء خطابهم لجهازي الأمن والشرطة، ثم مليشيات المؤتمر الوطني، من مسئوليتها في فض الاعتصام الأول؟ وكذلك استفهامنا لاستثناء خطابهم لكل قوى الهبوط الناعم (جماعيا وفرديا) المتهمة بإبداء موافقتها المبدئية لفض الاعتصام؟

كما سنكتب عن جذر من جذور هذه المشكلة المتمثلة في عنف الدولة المشتط ضد شعبها. فاحتكار الدولة للعنف قُصد منه أن يكون ذلك في سبيل تجنيب شعبها ويلات الاستخدام الطائش للعنف من قبل أفراد المجتمع. فإذا بها هي التي تستخدم العنف بعد ان احتكرته بطريقة طائشة وغير مسئولة، وضد من؟ ضد شعبها! وهذه في رأينا تركة استعمارية ورثتها دولة ما بعد الاستعمار حيث كان استخدام العنف المُفرط لقمع الشعوب المستعمَرة هو ديدن الاستعمار.

سوف نتناول جميع هذا في الأيام المقبلة، ذلك بعد أن نواري شهداءنا الثرى الذي استُشهدوا فداءً له. لكن هذا لن يمنعنا من المطالبة بإسقاط هذه الحكومة بكل تكويناتها المتمثلة في العسكر، جيشا وشرطةً وأمناً وجنجويداً ومليشياتٍ ، بجانب قوى الهبوط الناعم ثم الطابور الكومبرادوري الإمبريالي من مرافيد الحزب الشيوعي من ربائب الإمبريالية (أي مجمل قوى الإنقاذ 3). لا نطالبهم بالتنحي أو الاستقالة، فهم “أثقل” دما من هذا، بل نطالب بإسقاطهم عبر نفس الثورة التي أسقطت الإنقاذ (1) ثم الإنقاذ (2).

ومن هنا ندعو جميع قوى الثورة إلى إعلان تبرُّئها من كل مكونات هذه الفترة المسماة بالانتقالية زورا وبهتانا، ذلك بإعلان عدم اعترافها بالوثيقة الدستورية المنتهكة والمزورة أصلا. فلنتحد جميعا تحت راية تجمع المهنيين وفق ميثاق جديد لا وجود فيه لمجلس عسكري، حيث يبدأ تشكيل الحكومة الانتقالية من تشكيل المجلس التشريعي الثوري من قيادات لجان المناهضة وتجمع المهنيين بموجب الكفاءة الفنية والوطنية. ويكون من مهام هذا المجلس التشريعي الثوري تعيين ثلاث شخصيات مدنية ذات وزن قومي لتشغل مجلس السيادة كرمز تشريفي لسيادتنا، ثم بعد ذلك يقوم المجلس التشريعي الثوري باختيار رئيس لمجلس الوزراء من تجمع المهنيين، ليتبعه باختيار الوزراء شريطة أن يكونوا من شباب الثورة المصعدين من لجان المقاومة. هذا مع اشتراط عدم تعيين أي شخص مزدوج الجنسية أو اكتسبها بالتجنس وليس بالميلاد في أي موقع خلال الفترة الانتقالية. وهكذا ندشن المرحلة الثانية من لثورة ديسمبرالمجيدة إكمالا لمهام الثورة.

ومن هنا تمتد مطالبتنا لجموع الثوار بالتحضير والاستعداد ليوم الثاني من يونيو؛ فمجزرة القيادة العامة لها يومان من الذكرى، هما 29 رمضان ثم الثاني من يونيو. فلنستعد لهذا اليوم ولنحشد له جماهير الثورة لنحسم التحدي الأكبر، ألا وهو الإعلان عن المرحلة الثانية من ثورة ديسمبر المجيدة وفق ما أشرنا له أعلاه، ثم بجانب ذلك نعبِّر عن تصميمها على استعادة الشعب لقواته المسلحة وتنظيفها من الجبناء الذين خانوا الشعب ووقفوا يتفرجون في مثل هذا اليوم قبل عامين وهم يُذبحون ويُقتلون ويُحرقون، والحرائر من فتياته ونسائه يُستحيين ويُغتصبن. إذ لا يوجد تكريم للشهداء أكبر وأعظم من استعادة الشعب لقواته المسلحة. ففي هذه الاستعادة تكمن استعادتنا لسيادتنا المنتهكة من قبل دول الجوار ومحور الشر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.