أبو الجعافر كان بدوي

0 47

كتب: جعفر عباس 

.

خرجت علينا وكالة رويترز للأنباء بتقرير عن قبيلة إندونيسية تحمل اسم “بدوي”، لا علاقة لها بالعصر الحديث او الوسيط، وتعيش على الزراعة ولا تربي سوى الدجاج، وأفرادها يرفضون السيارات والمسامير والخمر والزجاج. التعليم أيضا ممنوع عندهم، وليتنا نأتي بخبراء من هذه القبيلة ليخلصوا عيالنا من مدارس حولتهم الى ببغاوات وأحالت بعضهم الى مستشفيات الأمراض النفسية.

أجدادنا النوبيون القدماء كانوا سكرجية ولكن “فوق راي” ففي عام 2010 تم العثور على أدلة بأنهم كانوا يصنعون نوعا من البيرة تحتوي على المضاد الحيوي تتراسايكلين وثبت ذلك من التحليل الكيميائي لعظام عشرات المومياوات، وبذلك يكونوا قد سبقوا الكساندر فليمنغ ب2000 سنة في اكتشاف المضادات والأمل عظيم في أن العلماء سيكتشفون ان التركين يحتوي على إكسير الشباب وان من يأكل التركين يعيش طويلا في عمر 39 سنة لا يبارحه.

ومع هذا فقد استغربت اهتمام رويترز بكون أفراد هذه القبيلة لا يتعاملون بالصابون. وقبل سنوات ليست بالبعيدة وفي شمال السودان مهد الحضارة الإنسانية (كان يوم امس 7 يوليو هو اليوم العالمي للحضارة النوبية وشهد احتفالات في 50 مدينة عالمية)، المهم انه كان هناك صبي يعاني من فوبيا وانهيار عصبي ورعشة كلما رأى قطعة صابون. وكان ذلك في القرن العشرين وهو القرن الذي تم فيه اختراع الطائرات النفاثة والتلفزيون والكمبيوتر والآيسكريم بالكريم كراميل (هذا النوع رهيب).. لم يكن أهل شمال السودان يعرفون سوى نوع واحد من الصابون هو المستخدم في غسل الملابس، ويستعملونه أيضا للاستحمام، وكان الصبي يرغم على الاستحمام كل يوم جمعة وكان أحيانا يتمارض كي ينجو من الاستحمام بصابون “حبوبة فاطنة”، كان ذلك الصبي هو صاحبكم أبو الجعافر (ما غيره).. حتى عمر عشر سنوات كانت أمي تتولى “تحميمي” في طشت في “نُص” الحوش، لأنني كنت من الذكاء بحيث لا يمكن ان أعرض نفسي للبهدلة بفرك جسمي بصابون مصنوع من نشارة الحديد.. كنت أولول بأعلى صوتي عندما يأتي الدور على غسل الرأس، فإذا تسربت نقطة من رغوة ذلك الصابون الحقير الى العين كنت تحس بنفس إحساس من قام بتكحيل عينه بالشطة.

كنا فين وبقينا فين.. عندي اليوم صابون حمام لو رأيته في طفولتي لحسبته نوعا من الحلويات بسبب شكله ورائحته الحلوة.. وعندي بانيو ولكن لم يحدث قط ان ملأته بالماء وجلست فيه.. وصرت استخدم عطر ما بعد الحلاقة (أفتر شيف) وقبلها كانوا يقصون شعر رأسي مع الفروة ثم يضعون على الرأس عجين الذرة، وبعد الاستحمام لا أكون مضطرا الى نقل الماء الناتج عن استحمامي في جردل/سطل يقبع داخل بالوعة، لرشه خارج البيت تعميما للفائدة. يعني كنت وإلى عهد قريب أنتمي الى قبيلة بدوي هذه ولكن رويترز لم تكتب عني.

وبصدق صرت أحن للعيش في بيئة شبه بدائية ليس فيها سيارات أو شرطة أو تلفزيون، بس لازم تتوفر فيها الكهرباء فما زال بي بعض خوف من الظلام كما أنني اعتبر الثلاجات والمكيفات (الخاصة بالهواء وليس اللي في بالك) أهم الاختراعات عبر التاريخ كله.

واعتقد ان أكثر من ثلثي السودانيين ما زالوا بدويين (بالمعنى الاندونيسي)، يستحمون بالجردل (عرض علي صديق صابون توب Top مكتوب على غلافه “غير صالح للأكل”… فضحتونا).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.