محنة نيو أورلينز: طنين المولدات ولألأة النجوم

0 58
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كتبت على روزنامة الصديق كمال الجزولي “يوميات أمريكية” نعيت فيها قلة علمنا بالقوة الأعظم: أمريكا. وتمنيت لو أن جامعة الخرطوم أنشأت معهداً للدراسات الأمريكية بدلاً عن معهد الدراسات الأثيوبية الذي أجازت قيامه مما كان مكانه معهد الدراسات الأفريقية والاسيوية بلا عسر.
أرقني شاغل قلة علمنا بأمريكا مرات. فاستنكرت على المعارضة للإنقاذ الترويج للمقاطعة الثقافية الأمريكية التي اقتلعت المكتبة الأمريكية من الخرطوم، واعتزلتنا بها الجامعات الأمريكية، موئل الإحسان الأكاديمي برغم كل شيء. وقلت لهم، وكنت عائداً للسودان من بعثة للدكتوراه بأمريكا لتوي، إن عاقبة سياساتكم التي لا تميز ضربها ستكون وخيمة على جامعاتنا علاوة على حرمان جماعة من خريجي الجامعات الأمريكية الذين تكاثروا من مكتبة منافعها جمة. وذكرت في “أيام أمريكية” عن طور ثان من أرقي بمعرفة أمريكا بقوة. فدعتني جماعة في الخرطوم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ للحديث عن أمريكا بعد تلك المحنة. فدعوت إلى تحسين العلم بهذا البلد المهم. واستغربت لأن الجمع انتهى إلى قرار بتنظيم موكب للمثقفين للسفارة الأمريكية احتجاجاً على شأن ما. وقلت في نفسي إنه العلم بالأقدام لا بالقريحة.
وكذبتني أمريكا في فهمي لها في أول أيامي بها في ١٩٨٠. فاضطرر لظرف عائلي إلى ملازمة المستشفى في مدينتي. ورأيت عن كثب عيادة العائلة الأمريكية لمريضها، ومصابرتهم غرف الانتظار، وتبادل الأدوار في الرعاية. وقلت أهذه هي العائلة الأمريكية التي قالوا إنها تفسخت بينما تظل العائلة عندنا مترابطة كالبنيان يشد بعضه بعض. وكنت أنظر مشدوهاً للطبيب يجتمع بالعائلة بعد إجرائه العملية ليطمئنها على سلامتها، أو اطلاعها على ما ينتظر مريضها بعد.
ومن باب العلم اكتشافي أن بأمريكا أميين مما لم يطرأ لي يومها. فجلست في غرفة الانتظار قرب والد وطفله. وأشكلت على الطفل مسألة في النحو. فسألني الأب أن أشرحها له. وفعلت. وما جاء وقت ضرب الأمثلة على القاعدة النحوية حتى انفكت عقدة لسان الأب وجاء بعشرات الأمثال.
وقفت أمس بقراءتي لعمود بقلم هولي بيلي بالواشنطن بوست على صدق قول الأمريكيين أن الواحد منهم للآخر (We take care of each other)، وإنه من يسند ظهرك (have one’s back)، أو القول في سخاء الواحد إنه ليخلع قميصه من جسده ويعطيك له (gives you the shirt off his back ).
كتبت بيلي عن حي الجيريا (الجزائر) بوينت للطبقة الوسطي الوسطى والعليا الذي يقع علي مقطع نهر المسيسيبي من مدينة نيو أورليانز في ولاية لويزيانا. ومعلوم أن المدينة والولاية تعرضا لإعصار آيدا منذ أسبوع وأكثر ترك، بجانب الطفوح والخراب الذي تزاحم على نشرات الأنباء، ٦٠٠ ألف دار، بل كهرباء وقتل ١٤ من أهلها.
حفل عمود بيلي بأنواع التكافل التي انتظمت الحي. فقال أحدهم إنه لم يخل بيته كما أمرت الولاية لأنه أراد أن يبقي مع جيران له لعونهم متى دعا الداعي. ووجدت الصحفية أن من أمتلك مولداً كهربائياً مد سلوكاً منه عبر الصريف ليضيء للجيران من حوله. ومنهم من مد سلكاً إلى فرندته الخارجية ليملأ الغاشي والماشي هاتفه المحمول منه. من جهة أخرى أضاء صاحب مولد كهربائي بيته بنور بنفسجي لينفذ عبر شبابيكه، متى أظلمت الدنيا، إلى غرف جلوس جيرانه فيستضاء به.
أما قصة هيزر وديفن تيرنر فعجيبة. كانت هذر حاملاً فغادرت وزوجها وطفلتها إلى فلوريدا قبل الكارثة لتكون بقرب مستشف عند اللزوم. ولما انزاح خطر آيدا عادا إلى حيهما، ولكن ليس قبل أن يتدبجا بمولدات كهربائية، وجوالين الغاز بنية إعداد وجبات للجيران. قالا للصحفية إنهما دخل الحي في الساعة الحادية عشر ليلاً. وكان الظلام دامساً “فلا تسمع سوى طنين المولدات ولألأة النجوم”. وما أصبح الصبح إلا وقد أعدا طعاماً لثلاثين شخصاً لم يلتقوا ببعضهم من قبل أبداً. وجلسا في اليوم التالي يوزعان زجاجات الماء للغاشي والماشي.
أما أطرف ما في عمود بيلي فهو تفريج أهل الحي لضيقهم في بيوت بلا كهرباء بانتظار عربة بائع الآيس كريم. فهم ينتظرون حلوله في أول المساء. ويسمع الناس بالعربة قبل حلولها ومكبر الصوت فيها يغني “ستأتي من حول الجبل” وصيحات البائع: “هلو”. ويتزاحم الناس عليها لإتاحتها فرصة نادرة لهم للاجتماع والأنس قبل أن يحل سواد الليل البهيم. فالآيس كريم هو الشيء البارد الوحيد المؤكد في حياتهم بلا كهرباء يرطبون بهم حراً يتشبث عرقه بملابسك. واعترف كثيرون للصحفية أنهم ينتظرون عربة الآيس كريم بفارغ الصبر لتكسر حدة الرتابة تحت سيف خراب آيدا.
استعجبت بعد قراءة العمود للطريقة التي لا يرى كتبة الأعمدة عندنا النبل في الناس الخائضة الوحل السياسي أو الطبيعي. فتجدهم لا يرون من الكارثة إلا الحكومة (وفي ذلك حق كثير) وهي فرصة للاحتجاج وإدمان الاحتجاج. قلت لصحفي صديق ألم يحدث شيء طيب خلال وقوع كل الأخبار السيئة التي نقلتها لي. قال: اجيب الخبر السمح من وين يا حسرة. قلت له أنا منفعل منذ أيام بخبر عن حلقة لتعليم الكتابة الإبداعية في بلدة سودانية في الهامش. هذا خبر سعيد وكبير. الأخبار السعيدة واجدة بس الأضان الراخية لها وين!
الصورة الثانية لهزر وزوجها ديفن تيرنر وعربة الآيس كريم هي الأخرى

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.