قانون تكساس ضد الإجهاض: فاز الأحد وسقطت أربعاء محمد جلال هاشم

0 63
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لو نظرنا لأبعد من أرنبة أنفنا الممرغة في المحلية ونحن نتناول أمهات من الأمور لعرفنا أن الأحد هزم أربعاء محمد جلال هاشم في أقصى الأرض.
فخبر أمريكا المزلزل في هذه الأيام هو تأمين المحكمة العليا الأمريكية على قرار ولاية تكساس الذي قيد حق المرأة في الإجهاض تقييداً شديداً. فالقرار يمنع الإجهاض بعد ستة أسابيع من الحمل إلا لاستنقاذ الأم من موت محتمل. ولا يأذن به حتى لو وقع الحمل نتيجة اغتصاب أو بين محارم. وأغرب ما فيه أنه خول لكل مواطن (من تكساس وغيرها) مقاضاة أي شخص اعتقد أنه أعان على الإجهاض أو شجع عليه. ولهذا المشتكي (وما به داء) عطية من الدولة مقدارها ١٠ ألف دولار مقابل أتعابه في ملاحقة من شجع على الإجهاض وأعان عليه. وستتكفل الدولة بدفع نفقات المحاماة عنه لو وقف أمام القضاء مشكواً منه. فصار من حق أي مواطن أمريكي أن يرفع في تكساس قضية ضد أسرة المُجْهِضة، وأصدقائها، ومحاميها، وقسسها، ومن قدموا لها الخدمة، ومن جمع تبرعات لعونها. واستنكر المدعي العام هذا التحريض للمواطنين ضد بعضهم البعض وسماه “قانون صائدي الهارب من العدالة” (bounty hunter). وهي ممارسة مشروعة تستأجر فيها الشركات، التي تتاجر في ضمانات المتهمين، مهنياً حسن التدريب ليلاحق من ضمنته أمام قاض متى لم يحضر للمحكمة في الزمان والمكان المحددين.
رمى قانون تكساس ب “رو ضد ويد” (١٩٧٣) إلى سلة المهملات. وهي القضية التي فصلت فيها نفس المحكمة العليا وقضت بأن الدستور يحمي حرية المرأة في الإجهاض بلا معيقات غير ضرورية من الحكومة. ومن الصدف أن ولاية تكساس نفسها كانت هي مسرح تلك القضية. فحملت فيها نورما ماكورفي بطفلها الثالث وقررت أن تجهضه. وكان قانون تكساس وقتها يحرم الإجهاض إلا إذا كان لإنقاذ الأم من موت وشيك. وقاضت ماكورفي (التي هي رو إخفاء للاسم الحق) وحكمت لها المحكمة العليا كما رأينا. ومما استند عليه المدعي العام في إدارة بايدن في القضية التي سيرفعها ضد ولاية تكساس خرقها الصريح لقانون البلاد وهو “رو ضد وي”.
شكلت “رو ضد ويد” الخطاب الأمريكي حول حقوق المرأة في جسدها، أي ما تفعل به. وهي بؤرة ما يعرف ب”الحروب الثقافية” في أمريكا بين التقدميين الليبراليين وبين المحافظين ممن إلهامهم من الدين. ويكفي أن الرئيس بايدن يلقى الأمرين من الكنيسة الكاثوليكية لموقفه المؤيد لحق المرأة في جسدها. فحجبته، وهو الكاثوليكي الملتزم، من العبور بطقس من طقوسها لموقفه من الإجهاض. ومعروف أن الرئيس ترمب، الذي كان مؤيداً لحق المرأة في جسدها خلال كهولته في نيويورك، قلب طلباً لأصوات اليمين الديني. وخلق بيئة مثلى لأوبة الدولة للدين، في لغة حسن الترابي. وأشرف على الردة عن العلمانية بوجوه كثيرة مستدبراً نص الدستور الذي قضى ألا يكون للدولة دين.
ولم تقتصر الخصومة بين الليبراليين والمحافظين على الكلام. فبين المنادين بتحريم الإجهاض متشددون لحقوا بيدهم من قدموا خدمات الإجهاض. وأشهر الحادثات هي اغتيال الدكتور بارنت سلبيان في نيويورك في ١٩٩٨ بطلقات من بندقية تشارلس كوب خلال شباك مطبخه لأنه طبيب إجهاض. وظل كوب طليقاً بفضل أنصار له لا شك حتى القوا القبض عليه في أوربا في ٢٠٠١.
لم أمكث طويلاً في اقامتي الأولى في أمريكا لأنتهي إلى أن الذي بين الدين والدولة ليس طلاق بينونة حتى في ظل دولة علمانية جهيرة. فلم يقف، ولن يقف، المتدينون وممثلوهم دون انتهاز كل سانحة لاقتحام الدولة بأجندتهم في السياسة الدينية. وخلصتُ إلى أن الذي بين الدين والعلمانية في الدولة جدل يبدو أنه أزلي. فينتهز ممثلو الدين بالذات أي فجوة في فرج الدولة العلمانية لسدها بمشروعهم.
فكنت وقفت يومها على عهد الرئيس ريقان على الصراع حول دستورية الصلاة المُنظمة في المدارس (وهي بالحق أدعية أكثر منها صلاة في مفهومنا) في مثل اصطفاف التلاميذ صباحاً وتلاوة تلك الأدعية تبركاً. وهي صلوات حكمت المحكمة العليا في ١٩٦٢ بأنها خرق لمبدأ ألا تكون للدولة دين. وهو ما ظل المحافظون يقاومونه لا تفتر لهم همة حتى جاء ترمب وصك عبارة “الحق في الصلاة”.
ناقشت الحركة الشعبية من فوق هذه الخبرة حين طلبت العلمانية “قبض يد” بما شمل تغيير يوم العطلة الأسبوعية وإزالة اسم الجلالة من ترويسات الخطابات. فالعلمانية عندهم “منتج” (product) مثل ماكينة سنجر سيف تسليم بورتسودان. فلا نزاع حول صلاحيتها وكفاءتها تقبلها صاغراً. بينما العلمانية “عملية” (process) في مثل ما رأينا عن حالة الإجهاض اليوم في أمريكا: كر وفر. لم تحم علمانية الدولة، التي قالت بالدستور أن ليس للدولة دين، من “تديين” الدولة. لم يتوقف المتدينون المحافظون من تشديد النكير على العلمانية من منصة الحزب الجمهوري، ومن فوق كنائسهم. وجامعاتهم، ومجامعهم وردها على أعقابها في حالات شطح معروفة عنها، واحتلال الأرض التي تخليها.
ليست هناك علمانية إلا وهي منازعة (contested) بالدين بصور مختلفة. ليست من علمانية صافي يا حليب. وأفضل نضال العلماني لها ألا نطلبها نقية من وغش الصراع لأجلها، والذكاء للغاية.
كلما ما مررت بعيادة تنظيم الأسرة (خدمة الإجهاض) على شارع بروفدنس بمدينتي الأمريكية وجدت امرأتين ورجلين من الغابرين وقد حملا لافتة تدعو على من في العيادة بالويل والثبور، وعذاب القبر، ونار أبي لهب. وحين سمعت بخبر تكساس وقانونها الذي قيد الإجهاض حتى كاد يلغيه قلت في نفسي: فاز الأحد وسقطت أربعاء محمد جلال هاشم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.