مهرجان للعلمانية  

0 39

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

طلبت مني مجلة الإثنولوجي الأمريكي في ١٩٩٦ عرض كتاب ت عبده ملقيم سيمون، في أي صورة؟ الإسلام السياسي والأنشطة الحضرية في السودان، دار جامعة شيكاغو للنشر: شيكاغو، ١٩٩٤. وهو كتاب كانت الحركة الإسلامية سبباً فيه كما سنرى. وجاء الكاتب فيه بنظرات في مأزق هذه الحركة غاية في النباهة. وزكيت لها نشره وهي في سكرات الحكم واطلاع كادرها عليه بصورة تربوية لأن فيه الشفاء. وعربت عرضي في الإنجليزية ورغبت في نشره هنا للفائدة.

هذا الكتاب اللماح ثمرة بيئة فكرية فريدة. فقد طلبت الجبهة الإسلامية القومية من الكاتب، الدكتور ت عبده ملقيم سيمون، الأمريكي الأفريقي المسلم، أن ينصحها بشأن مدن الكرتون في العاصمة القومية التي يسكنها النازحون من غرب السودان وجنوبه. وبكلمة موجزة، فالجماعة الإسلامية، الراجح أن النفوذ الغالب فيها لأهل النيل الشماليين من العرب المسلمين، التمست نصح الكاتب بشأن “أفرقة العاصمة”، الخرطوم، المعدودة في مدن الشمال المسلم العربي. وننوه بأن الجماعة الإسلامية، في التماسها النهج الأكاديمي والرفاقي في هذا الشأن مهما كان الرأي فيه، غير مسبوقة وقد شفت عن ألمعية سياسية محسودة.

غير أن هذه الجماعة الإسلامية، بحسب قول الكاتب، لم تنفذ بهذا الأمر إلى غايته. فقد حسبت الكاتب سيمون بهوياته الجمة المناسبة (سحنة سوداء وإسلام حسن) سيكون أميل الى المحافظة المتروية مما يعينها على “تدجين” كادر منها ذي تطلعات وأشواق حضرية أو محدثة سيحمل الخطاب الإسلامي إلى ساحات لم يكن للجماعة قِبَل بها. ورأت الجماعة أن في ذلك مخاطرة غير مأمونة العواقب لأنها قد تؤدي بها إلى تحد ومراجعة ما استقر العمل به في الجماعة ردحاً من الزمن.

ومن الجهة الأخرى، ولأن الكاتب افترض المرونة في الجماعة لطلبها النصح، فقد جَدّ في تحرياته، واستثمر حتى “لون بشرته السوداء” –أو كما قال – ليبلغ نصحه لمن انتصحه في سعيهما الجميل معاً لحاكمية الله على الأرض. كما استثمر الكاتب خبرته في العمل مع مسلمي جنوب أفريقيا في عام 1989 وهي الخبرة التي خصص لها الفصل الأخير من كتابه.

ولم يعجب هذا الجماعة الإسلامية أيضاً. ففي العلائق العنصرية في السودان كان وما زال أداء أهل الشمال من العرب المسلمين يُقارن بأداء الأفريكان البيض في جنوب أفريقيا ممن تفتق ذهنهم عن الفصل العنصري / الابارتايد. وهي مقارنة ظالمة تكشف من جهة عن ضيق وسخط مفهومين لما يجري في السودان، بينما تكشف، من الجهة الأخرى، عن جهل ملحوظ بما جرى أو يجري في جنوب أفريقيا. وغاية الأمر، أن نصيحة الكاتب لم تتخذ مجراها. فالجماعة الإسلامية، في قوله، جرعته غصص الدهاء الشمالي المجرب: استمعت اليه بتهذيب واحترام ولكن بغير شغف أو حماسة حتى جاءت اللحظة التي أهملته إهمالا.

أشار الكتاب بصورة دقيقة سديدة الى التحديات الثقافية والوجدانية التي تشكلها هٌجنة (خلطة الأجناس) قري الكرتون للصفوة السودانية سادن الهوية العنصرية أو الوطنية وضامنة صفائها وخلوصها: العرب عرب والزنج زنج إلى قيام الساعة. فبمسخ هذه القرى للحدود الفاصلة المرسومة، أو المتوهمة، بين العرب والأفارقة تتحول إلى ساحات لانبعاج الثقافات وامتزاجها. وطالما كانت هذه الخلطة عشوائية، وغير مرعية من الصفوة، المفروض فيها التدريب في فن التلاقح والتخصيب، فإن مصيرها أن تُوَلد حالة من الانحطاط الثقافي بدلاً عن الرقي الثقافي. ولذا وصف الكاتب هذه الساحات الخليط بأنها “سيريالية /أي فوق الواقع”. ففي” أنادي” هذه القرى الكرتونية، التي يحتسي فيها الناس من عرب وأفارقة الخمر بعيداً عن عين الشريعة، يفتش هؤلاء الناس، من كل جنس وشاكلة، عن الاحتمالات والأوجه التي ستتشكل عليها حياتهم المبتكرة المختلطة الهجينة. ولا أمان لهم من دولة. وهذا كدح شديد. وقد شبه الكاتب الاقتصاد الروحي الهامشي لهذه المدن الكرتونية ب ” الكرنفال” الذي برع الكاتب الروسي باختين في بيان هجنته وتسفيهه لثقافات الصفاء والنخب العليا. وقد جاء الدكتور سيمون في الأمر بنظرات غاية في الجدة والشفافية.

فهذه المدن الخليط تشكل عند الكاتب “مهرجاناً للعلمانية ” في واقع الأمر. فادعاء أي جماعة في هذا الحابل النابل الصفاء والخلوص هو مجرد قناع قائم في الرغبة لا في القول والعمل. وقد شهد الكاتب واقعة اجتماعية غاية في الدلالة على فكرته عن الكرنفال والهجنة والصفاء والأقنعة. فقد واقع جنوبي مسيحي، أو ذو ديانة أفريقية، امرأة مسلمة في إحدى هذه القرى. وقرر أهل المرأة رجمها حداً ولم ينقذها من مصير المخطئين ذاك إلا حماية أهل الرجل الجنوبي لها. وقَبِل أهل المرأة بالأمر الواقع. وانتهي الكاتب إلى القول بأنه، في هذا الواقع السيريالي، يلهج الشماليون المسلمون بقاموسهم العنصري المسيء بغير حماسة، ويصدرون في ذلك عن التزام بالطقوس أكثر من التزام بالحرفية والمصداقية. ومن الجهة الأخرى فإن الجنوبيين، الذين يتعرضون لهذا القاموس العنصري، يعلمون أنه فارغ، ولم يكتب أصلاً لواقع الخلطة في مدن الكرتون. فهم بهذا يقبلونه لا عن خوف، أو تواطؤ، بل بإهمال أو ازدراء.

ولذا فهذا الكتاب يجدد بذكاء دراسة العلاقات العنصرية والإثنية في السودان التي ضل البحث الرشيد عن ديناميكية فعلها طريقه إلى ساحات الاحتراب ” القبلي” والأهلي زمناً طويلاً. وسيحمد الباحثون للكاتب أنه جلب مفهوم الهُجنة، الذي ينهض كفكرة مركزية في دراسات الاستعمار وما بعده الرائجة في الغرب، إلى ساحة سياسات العنصر و “القبلية” في بلدنا. وقد ألهمه هذا المفهوم الخطر بحثه عن المأزق السوداني في مدن الكرتون حيث يختلط حابل جمهرة السودانيين بنابلهم، لا في دفاتر الصفوة التي تتقن فن صناعة الحدود، وتمجيد الصفاء، والولع باستثمارهما في سياسة الوطن.

وله أفكار غاية من الألمعية عن الجبهة القومية الإسلامية إلى حديث قادم.

نشرت العرض في مجلة الإثنولجي الأمريكي، مجلد 23، رقم 1، 1996.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.