روزنامة الأسبوع: ما تراه يصيد الكلاش؟!
(تأخَّر في النَّشر بسبب أعطال النِّت)
الاثنين
قد لا يحار المرء في أمر بعض «التِّجار» و«رجال الأعمال»، يُضبطون متلبِّسين بنهب المال العام، وممتلكات الشَّعب، لكن، ما أن تُتَّخذ الاجراءات في مواجهتهم، حتَّى ينخرطوا في الولولة والعويل، ويوكلون جيوشاً جرَّارة من المحامين للدِّفاع عنهم، مدَّعين أنهم إنَّما امتلكوا هذا المال عن حق! نعم، قد لا يحار المرء في أمر هذا النَوع من الحراميَّة، إذ لربَّما أمكنهم الاستناد إلى وجودهم في السُّوق كي يثيروا غبار الشَّكِّ حول كونهم ربَّما اكتسبوا هذا المال من «عرَق» ممارستهم التِّجارة .. ربَّما، ومن ثمَّ قد يكون بمستطاعهم جعل الأمر، على الأقلِّ، صعباً، بالنِّسبة للسُّلطة التي تتَّهمهم بالاستيلاء عليه!
لكن من يحيِّرون حقاً هم أولئك الحراميَّة الذين يقفزون إلى ظهر السُّلطة بليل؛ ومع أنهم، بعلم الجَّميع، ما كان لديهم، قبل ذلك، شروى نقير من مال اكتسبوه من عمل أو ورثوه عن أهل، إلا أنهم سرعان ما يتكشَّفون، خلال سنوات قلائل، عن مليارديرات لا حديث للمدينة، آناء الليل وأطراف النَّهار، سرَّاً أو جهراً، إلا بسيرة نهبهم مال الدَّولة وممتلكات الشَّعب! ثمَّ ما أن يُقبض على الواحد منهم بالجُرم المشهود، حتَّى ينخرط في الولولة والعويل، كما لو كان لديه مصدر «مشروع» لهذه الأموال والأملاك، بينما يعلم الغاشي والماشي أن كلُّ علاقته بها أنه قائم عليها، كمجرَّد مدَّع للاشتغال بالعمل العام، وإدارة الدَّولة، فلا سبيل لديه كي يبرِّر امتلاكه إيَّاها غير «اللغلغة»، و«طق الحنك»، !
أقول هذا بمناسبة ما حدث الأسبوع قبل الماضي، إذ أصدرت «لجنة تفكيك نظام الثَّلاثين من يونيو 1989م واسترداد الأموال العامة» قراراً بإلغاء عقد «مشروع الحديب» الذي تبلغ مساحته 2000 فدان، في محليَّة الجَّبلين بولاية النِّيل الأبيض، حيث أبرم فيه عقد شراكة، بتاريخ أبريل2017م، لمدة (25) عاماً ، بين شركة «ركاز العالمية للاستثمار المحدودة»، ويمثِّلها علي كرتي (!) وما يسمى «لجنة مزارعي جمعيَّة مشروع الحديب» الخاصَّة ببعض منسوبي النظام البائد، برئاسة أمين اتصال حزبهم بالمحليَّة. وكشفت التَّحقيقات عن أن أيَّاً منهم، جميعهم، لم يكن يملك، قبل ذلك، فداناً واحداً، لا في تلك المنطقة، ولا في أيَّة منطقة أخرى!
وبموجب هذا العقد «تنازل» الطرف الأول للثَّاني عن ثلث المساحة المذكورة مقابل تركيب مضخَّات، وصيانة قنوات، وتوصيل كهرباء، وتوفير مدخلات، وريٍّ مجاني، على حساب مزارعي المنطقة الذين عارضوا المشروع بقدر ما وسعتهم الحيلة، ولكن العقد تمَّ تنفيذه، مع ذلك، بقوَّة «السُّلطة»، وأساليب «التَّسلط»!
مع ذلك كشفت التَّحقيقات عن أن الشَّركة، برغم كلِّ هذا، لم تنفِّذ شيئاً من التزاماتها! وقد نصَّ قرار «لجنة التَّفكيك» على إلغاء العقد بالرقم (ص م أ / 50/2017)، بين الجَّمعيَّة والشَّركة، وأيلولة الممتلكات لصالح حكومة السُّودان. وقد بلغت جملة الأراضي المستردَّة بولاية النِّيل الأبيض، في محليَّة القطينة وحدها، 2,376 فدان كان قد تمَّ الاستيلاء عليها مِمَّن استغلوا «النُّفوذ والسُّلطة»، ومنهم ابراهيم احمـد عمـر (500 فدان)، وعلي عثمان (150 فدان)، واحمد هارون (100 فدان)!
الثُّلاثاء
لا تتوقَّعنَّ مِمَّن لا يحسن فكَّ الخطِّ أن يدرك أيَّ عمق مفترض لأهميَّة الدِّيموقراطيَّة، أو لمعنى المساكنة السِّلمية؛ ولذا فإن من أوجب واجبات الحكومة الانتقاليَّة، وحاضنتها السِّياسيَّة، ومنظَّمات المجتمع المدني كافَّة، للسَّير النَّاجح باتِّجاه الدِّيموقراطيَّة والسَّلام، استنفار أقصى الجَّهد لمحو عار الأميَّة عن شعوبنا. لقد كان الثَّامن من سبتمبر الجَّاري هو اليوم الدَّولي لمحو الأميَّة. وكان الخامس عشر منه هو اليوم الدَّولي للدِّيموقراطيَّة. أمَّا الحادي والعشرون فهو اليوم الدَّولي للسَّلام. ويقيناً على من لا يرى علاقة وطيدة بين المناسبات الثَّلاث أن يراجع نفسه!
الأربعاء
حسناً فعل صديقي فتحي الضَّو حين تطرَّق، مساء الأربعاء الماضية، لقضيَّة «المصالحة الوطنيَّة»، ضمن المحاور المتعدِّدة لحديثه القيِّم، خلال النَّدوة التي نظَّمتها له اللجنة التَّسييريَّة لاتِّحاد المحامين السُّودانيِّين، بمناسبة عودته الميمونة، بعد غياب طويل عن أرض الوطن. وكعادته أبدى فتحي فيضاً من الاخلاص الفكري والوجداني في الاحاطة بهذه القضيَّة، ونبَّه، بوجه خاص، لضرورة الالتفات إلى وضعها على رأس أولويَّات أيِّ مشروع للنَّهضة. على أنني وددتُّ، في تعقيبي عليه، لو اتيحت له معالجة هذا الموضوع فائق الأهميَّة، من ناحية أولى، ضمن نقد مطلوب لخبرة «المصالحة المايويَّة» الفاشلة التي حاولها جعفر نميري بوساطة فتح الرَّحمن البشير، في عامي 1977 ـ 1978م، ومعالجته، من ناحية أخرى، ضمن الأهداف المباشرة لمشروع «العدالة الانتقاليَّة» الذي قرَّرته «الوثيقة الدُّستوريَّة»، وبحت الحناجر من الدَّعوة إليه، منذ بواكير الثَّورة، بدلاً من تناوله بمعزل عنه.
«المصالحة الوطنيَّة» المطلوبة، والتي تستحقُّ التَّرحيب بها، يستحيل إنجازها قبل انجاز كامل مهام الفترة الانتقاليَّة، وعلى رأسها العدالة، متمثِّلة في المحاسبة، واستعادة الحقوق العامَّة والخاصَّة، وتفكيك سائر ما تمكَّن به النِّظام البائد.
الخميس
لا أعرف، حتَّى الآن، مَن هو ثروت قاسم، إذ لم يقدَّر لي أن التقي به، مباشرة، في أيِّ مستوى شخصي، كما ظلَّ هو، من جانبه، حريصاً، دائماً، على عدم الكشف عن شخصيَّته، مع أنه ظلَّ يحتفظ بعنواني الأسفيري ضمن قائمة مراسلاته، ويواظب، من ثمَّ، على الكتابة لي بصفة راتبة، تقريباً، طوال السَّنوات الماضية، ناقلاً لي، بلهجة تتَّسم بالتَّهذيب والمودَّة، «معلومات» ليس ثمَّة غنى عنها لأيِّ كاتب، في ما لو صدقت! بل و«يبرُّني»، أحياناً، بمقاطع من «مستندات» يقول إنها مأخوذة من ملفات بعض الأجهزة «المخابراتيَّة»! ومثلها «تقارير» ينسبها إلى بعض عملاء هذه الأجهزة، دون أن يتيح لي معرفة أصل علاقته، لا بها ولا بهم! وفي ما يلي أستأذن قرَّائي الكرام، كي أمرِّر لهم، بتصرُّف، ما نقل لي ثروت، مؤخَّراً، أنه تلقَّاه حول شحنة الأسلحة الرُّوسيَّة المثيرة، مِمَّا يحتاج، يقيناً، لمن يؤكِّده أو ينفيه، قائلاً:
[مجلس الاطلنطي الامريكي، ورئاسته في واشنطون، هو مركز دراسات سياسية ينشر البحوث والاوراق العلمية، ويعتمد البيت الابيض ووزارة الخارجية على دراساته وتوصياته. والسيد كاميرن هدسون هو أحد خبرائه المتخصِّصين في الشؤون الافريقية، وبالاخص السودانية. وسبق للسيد كاميرون أن عمل مديراً لمكتب المبعوث الامريكي الخاص للسودان، وقد عمل، سابقاً، في البيت الابيض، ووزارة الخارجية، والسي آي إي.
صاحبكم (يعني ثروت نفسه) في قائمة كاميرون هدسون الاسفيرية التي ينوِّرها بآخر المستجدات في هذه المنطقة، كما حدث في «غلوطية» شحنة الاسلحة التي احدثت ضجيجاً في السودان، وتجاذباً ما يزال مستمرَّاً بين كلٍّ من الجمارك ووزارة الداخلية من جانب، ونيابة «لجنة إزالة التمكين» من الجانب المقابل، حيث تصر الجمارك ووزارة الداخلية على تسليم الشحنة للمورِّد، لسلامة الاجراءات التي اتبعها، بينما ترفض ذلك نيابة «لجنة إزالة التمكين» لعدم اكتمال التَّحريات!
صديقنا هدسون يدعي تواطؤ عناصر النظام المباد لتسهيل تخليص الشحنة لتستعمل في تفلتات وزعازع أمنية تمهِّد لانقلاب عسكري! وفي هذا السياق اكد مجلس الوزراء، بالاثنين 6 سبتمبر 2021م، أن التفلتات الامنية التي وقعت مؤخراً في الخرطوم وبعض الولايات، يقف خلفها عناصر النظام المُباد! وبالسبت 11 سبتمبر 2021م، نفت القوات المسلحة السودانية صحة ما أشيع من أنباء عن «ترتيب انقلاب بين صفوفها»!
ادعوك إلى الرابط ادناه لمشاهدة الفيديو الذي يتوقع إنقلاباً بالخميس 30 سبتمبر 2021م:
https://www.youtube.com/watch?v=UbxOsJDuktU
لقد تناولت كثير من الاقلام غلوطية هذه الشحنة. تعرف يا حبيب خلفياتها، ولا نود تكرار المكرور، بل نحاول التركيز، في ما يلي، على نقاط لم ترد في كتابات الكتَّاب، استناداً إلى رسائل المستر كاميرون هدسون الاخبارية لقائمته:
أولاً: الفرق بين تاريخي حجز وفك الشحنة في اثيوبيا مهم. الحجز تم في 21 مايو 2019م، أما الفك فبالسبت 4 سبتمبر 2021م! عند الحجز كانت علاقة اثيوبيا بالسودان سمن وعسل ولبن، وكان رئيس الوزراء الاثيوبي يعمل كواسطة خير بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، كما كانت اثيوبيا الحليف الاول لسودان الثورة، بعد ان تخلت البلاد العربية عنه، خصوصاً مصر التي دعت الرئيس البرهان للقاهرة في نفس شهر مايو 2019م، حين رفع الرئيس البرهان «تعظيم سلام» للرئيس السيسي! وبعد حوالي اسبوع من زيارة الساعتين تلك، بحسب إفادة المستر هدسون، حدثت مجزرة الاثنين 3 يونيو 2019م!
ثانياً: بالسبت 4 سبتمبر 2021م، عندما فكت اثيوبيا الحظر على الاسلحة، كان النزاع بينها والسودان حول «الفشقة» و«سد النهضة»، قد وصل الى ما يقارب الحرب. وبالخميس 9 سبتمبر 2021م، نشرت مدونة «عين الشرق الأوسط Middle East Eye»، ومقرها لندن، ومراسلوها في كل البلاد العربية، مقالاً بعنوان: Sudan and Ethiopia trade accusations over weapons and bodies as tensions mount وترجمته: السودان واثيوبيا يتبادلان الاتهامات حول اسلحة وجثث على حين يحتد النزاع بينهما؛ حيث اشارت الى ان اثيوبيا اتهمت السودان، بالجمعة 3 سبتمبر 2021م، بدعم حركة تحرير تقراي المعارضة بمدها بالسلاح المصري، كما اتهمت السودان بمساعدة مسلحين من حركة تحرير التقراي على التسلل عبر الحدود السودانية ــ الاثيوبية، في محاولة لتخريب «سد النهضة»! وبالسبت 4 سبتمبر 2019م، اعادت اثيوبيا الاسانسير للسودان، بفك الحظر عن الشحنة، وارسالها له!
وفي نفس يوم السبت 4 سبتمبر 2021م نشر العميد الطاهر أبو هاجة، المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، بياناً دعا فيه إثيوبيا إلى عدم إقحام السودان في صراعاتها الداخلية!
لمزيد من التفاصيل يمكنك التكرم بمراجعة تقرير المدونة على الرابط ادناه:
https://www.middleeasteye.net/news/sudan-ethiopia-tensions-mount-tigray-weapons-renaissance-dam
ثالثاً: السلطات الاثيوبية، عند فحصها الشحنة في اديس ابابا، في مايو 2019م، استنتجت، من حجمها في 73 طرداً كبيراً، واشتمالها على كلاشنكوفات سريعة الطلقات، عيار 223، واحتوائها على مناظير ليلية، انها ليست للصيد أو للاستعمالات المدنية، ولذا قامت بحجزها، حيث كانت علاقة البلدين زبادي بالاناناس! لكن عندما صارت هذه العلاقة زفت بالقطران فكت ذلك الحجز بالسبت 4 سبتمبر 2021م!
رابعاً: يخبر المستر هدسون، بان صاحب الشحنة تاجر سلاح معروف في السودان، ويعمل بموجب تراخيص رسمية، صادرة من النِّظام المباد، مكتوب أنها لاستيراد الأسلحة النارية والذخائر للاستعمال المدني! غير أن النقاط أدناه مهمة لتدوير الدائرة:
(1) شركه «جيه إس سي كلاشينكوف كونسيرن JSC Kalashnikov Concern» المورِّدة للشحنة، ومقرها موسكو، متخصصة في إنتاج الاسلحة الحربية فقط!
(2) بالاثنين 7 يناير 2019م، بعد اسبوع واحد من تكوين «تحالف الحرية والتغيير» بالثلاثاء اول يناير 2019م، والمظاهرات مندلعة في الخرطوم وباقي المدن، تم فتح خطاب الاعتماد البنكي للشركة الروسية لتوريد الشحنة!
(3) محامي الشحنة هو الكادر المعروف في النِّظام البائد، وحزبه الحاكم، سراج الدين حامد يوسف، المتهم بالمشاركة في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك باديس ابابا عام 1995م، والذي عمل سفيراً لعدة سنوات في موسكو!]
الجُّمعة
الحديث عن «جدليَّة الدَّولة والثَّورة» حديث ذو شجون، إذ بقدر ما يوعز بمحاور «عمليَّة» ذات طابع آنيٍّ، يمكن، أيضاً، أن يوعز بمحاور «نظريَّة» لا ترتهن إلى زمن محدَّد. وفي الحالة الأخيرة سيكون المطلوب تناول الشُّروط الفكريَّة والسِّياسيَّة التَّاريخيَّة لارتباط مسألة «الدَّولة» بمسألة «الثَّورة»، عبر محاور تفصيليَّة ثلاثة على النَّحو الآتي:
المحور الأوَّل: أن بروز «الدَّولة» باعتبارها كياناً منفصلاً، مظهريَّاً، عن المجتمع، بل ويقف، عمليَّاً، فوقه، هو مجرَّد وهم، حيث أن «الدَّولة»، في حقيقتها، ليست قوَّة خارج المجتمع، أو أنها تمثِّل، بحسب هيغل، «صورة للعقل»، من النَّاحية الأخلاقيَّة، وإنَّما هي الثَّمرة المنطقيَّة لتورُّط هذا المجتمع في تضادَّات بين طبقات متنافرة داخله، مِمَّا أفضى لأن يلتهم فيها القويُّ الظالم الضَّعيف المظلوم، مستغلاً امتلاكه لأدوات القمع التي تمكِّنه من هذا الالتهام، كالشُّرطة، والسُّجون .. الخ؛ أي أن هذا المجتمع، بعبارة أخرى، قد تورَّط، أصلاً، في تناقضات طبقيَّة استعصى عليه حلها، فكان لا بُدَّ من بروز «الدَّولة»، ككيان للتَّهدئة، كرمَّانة الميزان، كمعامل يؤمَّل أن «يلطِّف» هذه التَّضادَّات والتَّناقضات!
المحور الثَّاني: أن «الدَّولة» لم توجد منذ الأزل، بل هي مستجدة في التَّاريخ، وطارئة على المجتمعات البشريَّة. فقد وُجدت مجتمعات لم تحتج إلى «الدَّولة»، بل ولم يكن لديها حتَّى أدنى فكرة عنها. فقط، عندما بلغ تَّطور تلك المجتمعات، اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً، درجة الانقسام إلى طبقات متناحرة بين «مستغِلين» ــ بكسر الغين ــ يملكون أدوات الانتاج، و«مستغَلين» ــ بالفتح ــ يملكون قوَّة عملهم، غدت «الدَّولة» ضرورة، متَّخذة مختلف الأشكال التَّاريخيَّّة التي يتمُّ انتقال هذه «الدَّولة»، منها وإليها، تلقائيَّاً. هكذا عرفت العصور القديمة دولة «مالكي العبيد والعبيد». وببلوغ القوى المنتجة فيها درجة معيِّنة من التَّطوُّر، أصبحت علاقات «العبوديَّة» عائقاً أمام الانتاج، فجرى الانتقال، تلقائيَّاً، إلى شكل أرقى، حيث عرفت العصور الوسطى دولة «الاقطاعيِّين والفلاحين الأقنان». ثمَّ تكرَّرت دورة التّناقض تلك بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، مِمَّا اقتضى التَّطور إلى شكل أرقى، عرفه العصر الحديث في دولة «الرأسماليِّين والعمل المأجور». وبنفس القدر فإن بلوغ الوضعيَّة الطَّبقيَّة الأخيرة حدَّاً من التَّناحر المعيق للإنتاج، يقتضي، من كلِّ بُدٍّ، أن يتمَّ الانتقال منها إلى شكل أرقى لصالح قوى الانتاج ــ بائعي «العمل المأجور». لكن هذا الانتقال الأخير يستحيل إنجازه تلقائيَّاً، إذ لا مندوحة من تفجير «ثورة» اجتماعيَّة مخصوصة ترتقي بالتَّشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة من «الدَّولة البُرجوازيَّة» إلى «الدَّولة الاشتراكيَّة»، كعتبة أولى على طريق المجتمع الشِّيوعي، فتستكمل علاقة «الدَّولة والثَّورة» تمام جدليَّتها، حيث تزول الطبقات، وتزول «الدَّولة» ذاتها، بالضرورة، ويتحوَّل المجتمع إلى اتِّحاد منتجين أحرار. وإذن، مثلما لم تنوجد «الدَّولة» منذ الأزل، فإنها لن تبقى إلى الأبد!
المحور الثَّالث: أن «زوال الدَّولة»، أو «اضمحلالها»، بمصطلح إنجلز، ليس عملاً يتحقَّق بسلاسة تلقائيَّة، وإنَّما لا بُدَّ له، أوَّلاً، من تدخُّل جراحي عن طريق «الثَّورة» التي «تنقل» المجتمع من طور «الدَّولة الرّأاسماليَّة» إلى طور «الدَّولة الاشتراكيَّة»، فاتحة الطريق، بموجب هذا، وليس بأيِّ موجب سواه، كي يتمَّ «الانتقال»، لاحقاً، وعند درجة محدَّدة من التَّطوُّر، إلى «المجتمع الشِّيوعي»، مجتمع المنتجين الأحرار الذين يعملون، ويقتسمون عائد عملهم، على قدم المساواة، ومن ثمَّ لا تعود بهم حاجة إلى «الدَّولة» التي سوف تؤول، بالضَّرورة، إلى متحف التَّاريخ السِّياسي!
أمَّا توهُّم «الانتقال» من «الرَّأسماليَّة» إلى «الاشتراكيَّة»، عمليَّة تتمُّ بصورة «تلقائيَّة»، فتلك أيديولوجيَّة تطمس، وتنكر، وتزوِّر، أو حتَّى «تلغي»، تماماً، مفهوم «الثَّورة»، إنها، على وجه التَّحديد، أيديولوجيَّة «الاشتراكيِّين الانتهازيِّين» الذين يدعوننا لانتظار «اشتراكيَّتهم» إلى يوم القيامة، وتنتشر أحزابهم، خصوصاً، في بلدان الغرب!
السَّبت
لم نقل، قط، بل وما ينبغي لنا أن نقول: «انكفئوا على كتب لينين وانقلوا منها»، لكننا قلنا، ونكرِّر القول: «ليست ثمَّة قداسة، لا للينين، كإنسان، ولا لأقواله، ولا لكتاباته؛ على أن من العيب أن يجهل الشِّيوعيُّون، أو يتجاهلوا، الأطروحات اللينينيَّة، وهم يتصدُّون لمعالجة ذات المشكلات والقضايا التي تصدَّت لمعالجتها نفس هذه الأطروحات»، والفرق، بلا شكٍّ، شاسع!
العاقل من لا يغمض عينيه، ويضع عليهما، فوق ذلك، عصابة سميكة، أو نظَّارات سوداء، ثمَّ لا ينفكُّ ينخرط في الشَّكوى المريرة من الظَّلام .. لكن، ماذا، ترانا نفعل مع الغرض الذي هو مرض، والفهم الذي هو أقسام!
الأحد
ألحَّ متسوِّل فصيح في سؤال أعرابيٍّ، فقال له الأخير: «والله ليس عندي أكثر مِمَّا أنا أولى به وأحقُّ»! فقال السَّائل: «أين الذين كانوا يؤثرون الفقير على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»؟! فردَّ الأعرابيُّ: «ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافا»!
***