أيام أزقة البؤس

0 90

الخرطوم ــ السودان نت 

تتحول ذكريات الطفولة إلى صور ذهنية، لكن عندما نحاول أن نجد رابطاً بين الحاضر والماضي، تبقى ما تختزنه الذاكرة والمشاهدة الآنية هي السبيل الوحيد. حاولت البرهنة على صحة أو خطأ هذا الافتراض.

سأروي لكم التفصيل.

قررت الذهاب إلى حيث المنزل الذي كنت أقطن به مع الأسرة قبل عقود.أخمن أن سني كانت آنذاك في حدود ست سنوات.

تغير المنزل نحو الأفضل. جدران من الطوب الأحمر غطته طبقة أسمنتية بطلاء أصفر.

أشجار مخضرة.هناك أزيار ماء.الزير جَرَّة كبيرة يُوضع فيها الماء، ليصبح بارداً.

كان منزلنا قد شيد من الطوب اللبن وهو نوع من أنواع القرميد البدائي، ويصنع من خلط التربة الطينية والرمل والماء مع القش.

تقي جدران المنزل من حرارة صيف لافحة كانت تجعلنا ونحن صبية نتصبب عرقاً حتى في الصباحات الباكرة.

قفزت من تلافيف الذاكرة صورة ذهنية أخرى. صورة طفل يرتدي أسمالاً، ويلعب مع أقرانه من شروق الشمس حتى انحدارها نحو المغيب.

استرجع صورة أطفال يلعبون ويغمرهم الفرح. تحدث أصواتهم ضجيجاً، تعبيراً عن دواخلهم البريئة التي تفيد بأنهم يمارسون طفولتهم بجرأة.

لعبنا كثيراً في الزقاق الترابي الذي يوجد به منزلنا. كان الهوس آنذاك هي كرة القدم. لم يكن المذياع منتشراً، بل نادراً ما يوجد في تلك المنازل الطينية، لذلك كانت وجهتنا مقاهي”سوق السجانة” خاصة عندما كان الراديو ينقل مباريات كرة القدم.

كان الراديو يدل على أن صاحبه من الميسورين. تلك كانت الصورة الذهنية حتى جاء زمان لاهث اقتصرت فيه الأمر على هاتف محمول.

عندما تعطلت شبكة فيسبوك وبعض منصات التواصل، شعر كثيرون في كل أنحاء العالم بأنهم أصبحوا خارج العصر، هذه هي الصورة الآنية، اذا ما قارناها مع الصورة الذهنية لأيام الطفولة نجد بأننا نعيش في عالم اللامعقول.

يجسد الزقاق الذي عشنا فيه البؤس في حي يقطنه فقراء ومعدمون، لكن تعلمنا الكثير من فترة الإملاق.

عشنا تحت مستوى الفقر بدرجات. كنا على سبيل المثال نسمع عن لحم الضأن والسمك والفواكه، لكن لم نكن نجدها فوق طاولة مهترئة، باهتة اللون توضع عليها وجباتنا البئيسة. نداري الجوع في بعض الأحيان ببضع تمرات.

كنا نعيش في أزقة البؤس لكن البؤس لم يولد قط في دواخلنا.

في الطفولة لم يكن يعنينا أن تكون أولا تكون للحياة معنى، عندما تشعبت الدروب عدت إلى مراتع الصبا لتتأمل المنزل القديم، كانت محاولة لاسترجاع الطفولة كمجموعة صور ذهنية.

عندما نقف أمام الأمكنة التي ترتبط معها بذكريات ونحاول استعادة الأحداث، نحن لانعيش الحنين فقط، بل نشتاق لأنفسنا أكثر من الأمكنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.