سيكولوجية إدمان السلطة

0 221

كتب: فايز الشيخ السليك

.

كلما تأملتُ في أوضاع صراعات السلطة وما يسفك من دماء بسببها قفزت إلى ذهني فكرة رواية “المقامر”، وسيكولوجية إدمان لعب الميسر عبر الورق، أو النرد أو الروليت ليس مهما، بل يظل المهم هو السعي الحثيث من أجل تحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب الشخصية ، ودون شك لن تكون المنافسة شريفة، بل سوف يستخدم كل طرفٍ ما يمتلك من آليات تساعده على المناورة والتمويه وخداع الخصم.
في رواية المقامر للكاتب الروائي الروسي العظيم فيودورديستوفسكي، دخل الأستاذ المثقف والفقير أليكسي، في حالةٍ غير متوازنة من الحب، فهو الرجل الفقير بينما كانت حبيبته فتاة ميسورة الحال، تنحدر من الطبقة الاريستقراطية، صنع الفارق الاجتماعي حالةً من التوتر بلغت مداها بالوصول إلى مرحلة إدمان لعب الميسر، بعد أن رفضت الفتاة الارتباط به.
ظن أليكسي، أن حل أزماته العاطفية والمالية سيكون عبر مداومة لعب الروليت، كي يتمكن من جمع أكبر قدر من المال، ظلّ أليكسي، في حالة صعود وهبوط مع دوران أرقام “الروليت، لكنه كلما خسر جولةً أصر على مواصلة اللعب مرةُ أخرى وفي كل مرة لا يفارقه أمل الفوز، رغم توالي خسارات الرجل إلا أنه في آخر المطاف بات مدمناً للعب القمار!.
خلال دردشة أيام حكم الإسلاميين ، توجهت بسؤال مباشر إلى أحد قادة الحركة الإسلامية عن سر التمسك بالسلطة؟ ما هي تلك الأسباب التي تجعل من الكرسي هدفاً عزيز المنال، و من الحكم غايةُ بدلاً من أن تكون وسيلةُ؟ ما هي الدوافع التي تجعل الطغاة يتمسكون بالكراسي ولو جرت من تحتها أنهاراً من الدماء؟
قال لي الرجل ضاحكاً، وهو رسم لي من تجربته موكب لمسؤول حكومي وما يضمه من سيارات، دراجات نارية، علم يرفرف، وصوت السارينا ، في المقدمة، بهرجة وثراء ووجاهةـ ” هذا سحرٌ لا يقاوم” ثم أردف مبتسماً ” السلطة مثل الجنس”.
يمكن أن يصل التمسك بالسلطة حد الإدمان، مثل إدمان بطل رواية ” المقامر” الذي كان يحلم بالفوز رغم الخسائر، وتعريف الإدمان وفق علم النفس ” اضطراب في الدماغ يتسم بارتباط قهري بمحفزات نظام المكافأة في الدماغ بالرغم من النتائج الضارة.

مع احتدام الصراع السياسي في السودان تقفز تساؤلات حول تمسك القادة العسكريين بالحكم مع أنهم وقعوا على وثيقة دستورية تحدد مدىً زمنياً للفترة الانتقالية وتداول رئاسة المجلس السيادي بين المدنيين والعسكريين.
تنص الوثيقة بوضوح في فصلها الرابع، المخصص لمجلس السيادة وتشكيله على أن مجلس السيادة هو رأس الدولة ورمز سيادتها ووحدتها، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع والقوات النظامية الأخرى، حددت الوثيقة أيضاً في المادة ٣ بأن رئيس المجلس السيادي في الفترة الأولى من العسكرييين، وتستمر مدته ( ٢١ ) شهراً من المدة التي تبلغ ( ٣٩ ) شهراً، على أن تؤول الرئاسة في دورتها الثانية إلى شخص مدني من ضمن أعضاء المجلس السيادي.
ويبقى السؤال، لماذا يتنصل كثير من الحكام غير المنتخبين عن التزاماتهم بتسليم السلطة؟ هنا السؤال ليس مقصوداً به الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في شخصه، لكنه سؤال لدراسة الحالة السلطوية عبر كل العصور.
يرى نيك تشيسمان، مؤلف مشارك في كتاب “كيف تزور انتخابات”، إن الإجابة السهلة هي الفساد، “إذ يمكنهم كسب مزيد من الأموال، والبقاء للحفاظ على الثراء. بيد أن الواقع يشير إلى أن ثمة أشياء أخرى أكثر تعقيدا”. بي بي سي عربية.
ويضيف تشيسمان أن أكثر ما يخشاه الزعماء من مجرد خسارة أموالهم، هو محاكمتهم بعد مغادرة السلطة، ولديهم من الأسباب الوجيهة التي تدفعهم إلى هذا الخوف. وفقا لبحث نشره تشيسمان في كتابه، حوكم 43 في المئة من زعماء أفريقيا الذين تنحوا عن الحكم، وأرسلوا إلى المنفى أو أُعدموا، خلال الفترة بين عامي 1960 و 2010.
كما يشعر الزعماء بضغوط من جانب من يحيطون بهم، كعائلاتهم و حلفائهم السياسيين أو حتى قادة الشرطة والجيش، حتى بعد أن قدم هؤلاء المساعدة للزعماء من أجل الوصول إلى السلطة.
ويقول تشيسمان: “حتى عندما تعتقد أن الوقت حان لاتخاذ قرار، ستجد مجموعة من الأشخاص تطرق بابك وتقول لك (لا تفعل)، ‘هذا ليس من أجلك ‘، إن الأمر يتعلق بآلاف الأشخاص الذين قاموا بأشياء من أجلك وضحّوا من أجلك. هؤلاء هم بطانة السوء من حارقي البخور وضاربي الطبول.
تقتضي الموضوعية أن نقول أن لا أحد حتى الآن طرح موضوع تسليم السلطة من المكون العسكري إلى المكون المدني، مثلما لم تحدد الوثيقة التي تم تعديلها في اتفاق جوبا، تاريخاً محدداً لتسليم البرهان رئاسة السيادي إلى الشخص المدني، وهذا ما يجب أن تجلس الأطراف للحوار حوله ووضع خارطة طريق ومصفوفة توضح القضايا وتواريخ تنفيذها وجهات التنفيذ.
لكن مع دنو أجل التسليم، ولكل أجلٍ كتاب، بدأ احتقان المشهد السياسي واضحاً، وشهدت البلاد حالات جذب وشد منذ حكايات ” تسعة طويلة”، الإضرابات الأمنية، شد الأطراف، وحصار البلاد باغلاق الطرق المؤدية الى بورتسودان، واغلاق الموانئ البحرية بمبرر تهميش شرق السودان، وكما نقول للشرق قضية، لكن ما علاقة وضع كل المواطنيين رهائن لمطالب سياسية؟ ولماذا الدعوات لأسقاط الحكومة المدنية مع أن مسار شرق السودان كان من صناعة المكون العسكري؟
جاءت الخطوة الثانية سياسية مباشرةً، حيث سعت جهات لا تريد الانتقال السلمي السلس، وقصدت دعم مخطط شق قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية والمسؤولة قانونياً عن الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية بما فيها تكوين الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي والمجلس التشريعي، والغرض من كل ذلك احداث فراغ دستوري وارباك المشهد السياسي حتى لا يتم تسليم السلطة السيادية للمكون المدني.
نعم، هناك أخطاء كبيرة ارتكبها المكون المدني بالتنازل عن صلاحيات تنفيذية وترك المساحة خالية للمكون العسكري كي يتمدد كل مرة ويتحول الى حاكم فعلي بدلاً عن كونه سلطة بروتكولية، مثلما لا تزال الحكومة تقف فوق رمالٍ متحركة من الأزمات الاقتصادية.
كما فشلت النخبة المسيطرة على المشهد في عملية توسيع قاعدة المشاركة بدلاً أن توزع المناصب الإدارية للأحزاب الحاكمة بما فيها قوى الكفاح المسلح التي تشكو من التهميش واختطاف الثورة مع أن الواقع يؤكد ضلوع هذه الحركات في ذات لعبة المحاصصة والهيمنة.
إلا أن التصعيد الأخير ارتبط بأزمة سياسية لا علاقة لها بأزمات الشارع، واحتياجاته، بل العكس تماماً فأن شهر أغسطس الماضي حقق التضخم انخفاضاً لأول مرة منذ سنوات، مثلما حافظ سعر الصرف على سعره لأشهر عديدة، واختفت صفوف الوقود والخبز رغم ارتفاع الأسعار وفوضى الأسواق.
تمثلت الخطوة التالية في عملية ارباك المشهد السياسي بتعطيل المكون العسكري لعمل المؤسسات الانتقالية حيث تجمدت اجتماعات المجلس السيادي، ومجلس شركاء عملية السلام، ومجلس الأمن والدفاع، واقتصر التواصل على لقاءات واتصالات متقطعة بين رئيسي الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، والسيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
إن الغرض من اختلاق الأزمة السياسية، والتي تتطور الى أزمة دستورية هو رغبة الجهات العابثة بالانتقال في قطع الطريق أمام التحسن الاقتصادي، وإمكانية جذب مستثمرين أجانب للشراكة في مجالات الطاقة والبنى والتحتية والزراعة والصناعة.
إن خلق الأزمة السياسية جاء بسبب غفلة المكون المدني، وعدم قدرته على المبادرة والتحول إلى خانة الفعل وليس رد الفعل مثلما يفعل المكون العسكري كل مرة، لكن بغض النظر عن الأسباب فإن اللعبة هذه المرة ستكون خطرة، لأنها ستكون في مواجهة ملايين من السودانيين عبرت عنهم مظاهرات، يوم الخميس الماضي الموافق الحادي والعشرين من أكتوبر.
ليس مهماً أن تكون أسباب التشبث بالسلطة هي الطموح وحلاوة الحكم، لكن ثمة أشياء أخرى تتعلق بالحصانات والمخاوف لا سيما بعد تأخير الدخول في عملية العدالة الانتقالية التي لم تتكون مفوضيتها مع بقية المفوضيات.
إن الإدمان حالة، يمكن تكون لعب ميسر، خمر، مخدرات، وبلا شك هناك إدمان السلطة، احساس المستبد بالمخاوف، القلق والأطماع،
هناك تصورات فوق كل هذه المشاعر، هو تهيأت زائفة يضعها المستبد لنفسه، مثل التوهم بأنه الوطني الوحيد الحريص على الاستقرار والتقدم، ومن هنا يكون هو الوصي، الناهي والآمر، وما شعبه الا مجموعة قُصر، أو عاجزين لا يستطيعون فعل شيئ من دونه.
والأسوأ أن تكون الحالة المتضخمة ليست حالة فرد، بل حالة جماعة فاشية أدمنت السلطة باسم الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.