الخطاب والاحتجاب

0 61

كتب: عمر الدقير

.

مِمّا جاء في خطاب الفريق البرهان، عشية ذكرى الاستقلال، قوله: “التنازع حول السلطة والانفراد بها وما ترتب عليه من إزهاق للأرواح وإتلاف للممتلكات وتعطيل لحياة الناس يوجب علينا جميعاً تحكيم صوت العقل فالتوافق طريقه قبول الحوار الجاد” .. هذا قولٌ مردود ينطبق عليه المثل الشهير “رمتني بدائها وانْسَلّتْ”، فالانقلابيون هم الذين انفردوا بالسلطة بالقوة بعد أن مزقوا العهد الدستوري الذي كان قائماً و هم الذين أعرضوا عن تحكيم صوت العقل واعتصموا بمنطق القوة بدلاً عن قوة المنطق .. أما الدعوة – التي جاءت في الخطاب – للحوار والتوافق فهي لا تتسق مع انتهاك الحقوق الأساسية وقمع المتظاهرين السلميين وإصدار أمر طوارئ يطلق يد جهاز المخابرات ليمارس الانتهاكات دون مساءلة، فذلك كمن يوجه مُسَدّساً محشواً بالرُّصَاص إلى صِدْغ الآخَر ثم يدعوه لتحكيم صوت العقل والحوار الحر الجاد !!

باختصار، لم يقل خطاب الفريق البرهان شيئاً وكان أشبه بالصّمت الثرثار .. اتسم بالتعميم والتبسيط والتجافي عن الحقائق حتى تبدو الأزمة الراهنة وكأنها صنيعة المواكب السلمية ولا علاقة لها بانقلاب ٢٥ أكتوبر واتفاق ٢١ نوفمبر وما تلاهما من انسداد سياسي، وانتهاكاتٍ وقمع وقتلٍ  لم يزل يقصف أعماراً نضيرة ويُخَلِّف دمعاً سخيناً في العيون وحزناً دفيناً في الصدور.

أمّا الدكتور عبدالله حمدوك، فإن الذين أشاروا عليه بالاحتجاب وعدم مخاطبة شعبه، لم يحسنوا النصح .. ولعلها المرة الأولى، منذ أكثر من ستين عاماً، التي يمتنع فيها رئيس الوزراء عن تحية ذكرى الاستقلال ومخاطبة شعبه بهذه المناسبة الوطنية.

وفقاً لآخِر ما هو معلن لا يزال د. حمدوك وناصِحُوه يتمسكون باتفاق ٢١ نوفمبر ويَشْكُون من عدم التوافق السياسي حوله، والغريب في الأمر أنهم يتجاهلون العامل الأهم في المعادلة وهو الرفض الشعبي العارم له، إذ لا قيمة لأي توافق سياسي في غياب السند الشعبي .. ولكن بعيداً عن الخوض في اتفاق ٢١ نوفمبر، ثمة عدة أسباب تستدعي أن يخاطب د. حمدوك شعبه مباشرةً، من بينها إزالة الإرباك الكبير الناتج من سيل التصريحات التي ينقلها كثيرون على لسانه والإشارات المتضاربة التي تتسرّب من منزله بضاحية كافوري والتي يختلط فيها حابل “الاعتزام والتلويح” بنابل “الأجاويد والتأجيل” .. ولا يقل أهمية عن ذلك أن هناك قضايا أخرى من حق الشعب أن يعرف موقفه بشأنها، منها ما تعرضت له المواكب السلمية في ١٩ و٢٥ و٣٠ ديسمبر من قمع دموي مفرط وما رافقها من انتهاكات تمثلت في تعطيل خدمة الانترنت وقطع الاتصالات وسَدِّ مداخل الجسور بالحاويات، ومداهمة المستشفيات وسيارات الإسعاف والتربص بمواكب تشييع الشهداء، والاعتداء على الإعلاميين ومكاتبهم، وما تواتر من أنباء الاغتصابات التي أجبرت حتى مجلس السيادة الانقلابي على “التوجيه بالتحري عنها” .. كذلك كان الشعب ينتظر أن يسمع منه إعلان موقفه من أمر الطوارئ الذي أعاد صلاحيات جهاز المخابرات كما كانت في عهد النظام المباد، وأن يعرف حقيقة وأسباب الزيادة الكبيرة في أسعار الكهرباء .. وفوق ذلك فإن من نصحوا د. حمدوك بالاحتجاب والصّمت حرموهُ، أو حرم نفسه، من القيام بواجب الترحم على الشهداء وتعزية أسرهم ورفاقهم ولو من خلال “تغريدة” مرسلة.

المهمة العاجلة لقوى الثورة هي إنجاز الشرط الحاسم لهزيمة الانقلاب وهو تشكيل جبهة عريضة بقيادة تنسيقية موحدة والاتفاق على خارطة طريق تُؤسِّس لواقعٍ جديد يُصحِّح  مسار الفترة الانتقالية بإرادة جماعية ويمضي بما تبقى منها نحو إنتخابات عامة حرة ونزيهة.

نسأل الله القبول والرحمة لشهيدي اليوم وكلِّ الشهداء، والشفاء للجرحى .. والنصر لشعبنا العظيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.