العبادي (10) دائي بنت البدو وإنتَ عارف ..!

0 89

كتب: د. مرتضى الغالي 

.

ثلاث أغنيات بالغة الروعة تتغني بجمال البادية الحوشية الطبيعية الريفية الخلوية (العسينة) .. وهذه الأغنيات لا بد من (أخذها بقدرها) حيث أنها تصف البادية من خلال رؤية مدينية وبعد معايشة للبيئة الحضرية وانطلاقاً منها.. وكأنها تحن للبادية وتتغزّل بجمال الريف في مقارنة مع البيئة الحضرية وتشوقاً للانطلاق الذي لا تكبله قيود المدينة وأعرافها .. ذلك من واقع أن أغنية الحقيبة أغنية مدينية حضرية .. والأغنيات الثلاث هي : (في الضواحي وطرف المداين) و(شوف محاسن حسن الطبيعة) و(في التغزّل بين المسارح) وشعراء هذه الأغنيات الثلاث هم على التوالي : خليل فرح وإبراهيم العبادي وعبدالله سليمان “العشوق”.

وقد بلغت هذه الأغنيات التي تشترك في الموضوع والشكل واللحن شأوا بعيداً في الذيوع والتنافس (كتفاً بكتف) في عرض مجالي الطبيعة البدوية وإنسانها وحسانها واختلاجات الشعور تجاهها بصورة حيّة حيوية فائقة التصوير والتجسيد ؛ وبعيداً عن الوصف التقريري والسطحية والرتابة .. مع الاحتشاد بكثير من الأفكار والتأملات والتصرّف في اللغة وفي عرض واستعراض الأخيلة والتصوّرات ..! .

ولا تظن إننا تجاهلنا أغنية محمد بشير عتيق (في الضواحي وطرف القضارف/ يلا ننظر صوفي البشير) التي تتخذ ذات المسار الذي اتخذته الأغنيات الثلاث، أو أننا أغفلنا عن ذكرها (وأصبح أمرنا فرطا) .. فلا مغالطة في مقدرة عتيق الشعرية العالية .. ولكن لم يكتب لأغنيته الذيوع والانتشار والتنغيم الغنائي والبناء الفني الذي ارتفعت إليه قامة تلك الأغنيات الثلاث .. كما لا يعتقد احد إننا قد تناسينا أيضا أغنية (عبيد عبد الرحمن) الرهيبة (من محاسن حسنو المحاسن/ في جبينو النور والهلال) ولكن أغنية عبيد هذه لا تجاري هذه الأغنيات في التغني بجمال الطبيعة البدوية بل تعارضها بقوة وتتغني بالجمال المديني :

 

مالي والغزلان في تلالن؟

إيه ينيل قنّاص من علالن..؟

كيف أطيق واتحمّل ملالن..؟

بعشق الغانيات في ظلالن

بعشق التايهات في دلالن

بعشق الهيباتن جلالن

.. بعشق الأخلاق والكمال)..الخ

 

وبما أن أغنية خليل فرح (في الضواحي) لا تحتاج إلى كثير كلام (ولا قليله).. لا بد من الإشارة إلى أن أغنية عبدالله العشوق (في التغزل بين المسارح) هي من الأغنيات التي تضاهي أغنيتي خليل فرح والعبادي ولا تنقص عن مقامهما (مقدار خردلة) بالرغم من علو كعب الخليل والعبادي .. وبالرغم من أن العشوق من الشعراء المغمورين قليلي الإنتاج ومحدودي الحصيلة إلا أن أغنيته هذه تعد من درر الأغاني ومن مراقي الإبداع العليا ولن نزيد ، لأن الحديث الآن عن العبادي وعن أغنيته وعن إبداعه المعهود في كل ما يتناوله ، وعن تجلياته في التعبير عن جمال الطبيعة البدوية من منصته الحضرية..!! .

تبدأ جولة العبادي بالاستهلال الصحيح قبل التوغّل في سياحته المتبصرّة :

صاحي شاهد ها هي الطبيعة

زاهية زاهرة بزهور ربيعا

دون سواقي يسرف نبيعا

مافي شتلة السايم يبيعا

مافي صيده انقادت تبيعه

دون مجالب حسن الطبيعه..

لا تصنّع صبغة دلال..!

وتتسع الصورة وتنفرج الزاوية في مرائي الطبيعة ويصبح قلبه ديراً لمحاسن البادية..ويستوحي صورة الجداول في جوانب التلال بالضفائر (المساير) حول جبين الحسناء:

شوف نواحي الوادي الخديره

والحمائم يشجيك هديره

تلقى بدر التم في غديرا

دي المحاسن وأنا قلبي ديره

صاحي أملا عيناك وديرا

شاهد ايد الصانع القديره

تُملا بهجة وعظمة وجلال..!

ثم جولة أخرى:

شوف هضاب الوادي الوثيره

والزهور منظوما ونثيره

عن جمال البدو تروي سيره

وعن محاسن البادية الكثيره

والجداول في حال مسيرا

في جبين التل زي مسيره..

والغداير حول الهلال…!

والدواء من الولع بحسناء البادية مشتق من (فيروس الداء المتحوّر نفسه) كما هو الحال في الأمصال الطبية :

شوف هداك الصيد لجّ شارف

يرعى نالو الحول المسارف

أوعى من الخور سيلو جارف

ميل شمالك وأبرا المصارف

عوج على السيّال ظلو وارف

دائي بنت البدو وإنت عارف…

.. بل شفاي من دائي العضال..!!

ثم الانحياز (المؤقت) لفتاة البادية:

بهوى ياخي السكنت براحا

في هواها وعز انشراحا

في غدوها وساعة رواحا

بهوى فيها الحيا والصراحه

ما بتجول فكري الخاضبه راحا

ياخي بعشق جارة مُراحا

في ربوعا الخلف التلال..!

وإضافة أخرى من استذكار اجتماع محاسن الدنيا في ثلاث : (الخضرة والماء والوجه الحسن) :

 

شوف جمال البدو مو مضارا

شوف دي صُفره الفضحت نضارا

هادي نادي الغامق خضارا

دون تكلّف لهجة حضاره

شُفتَ فيها البها والنضاره

شيء يعيد الروح في احتضارا..

الخضار والماء والجمال..!!

ثم تأتي إشارة العبادي الذكية إلى الحصافة البدوية (في غياب التعليم النظامي .. مع شمائل الأدب والجمال الفطري”:

دون فصاده سواك إلاهك

والإبار ما لمسن شفاهك

بي فظاظه ما فاه فاهِك

فِطرة أدبك وطبع انتباهك

دون تعلَم مثبوت نباهك..الخ

هذا هو التصوير الفني في غياب الكاميرا والفيديو .. وهذا هو الولع والتغني بالجمال البدوي والحضري عند العبادي وأضرابه .. بحيث لا تفلت منهم حسان البادية أو جميلات المدينة..! وحتى عندما جمع محفل عرس بين بنات الريف وبنات المدينة في مكان واحد .. قال خليل فرح (لمّ خيل الضل على الأريل) .. والرمز واضح في تشبيه نساء البادية بالأرائل .. ونساء المدينة المُنعمات الفارهات بـ(خيل الضل) …!! .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.