السودان: ضد احتراق الوطن

0 58

كتب: د. الشفيع خضر سعيد

.

أشرنا في مقالنا السابق إلى أن السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة من أجل التحول الديمقراطي وإنقاذ الوطن، واستنكرنا حالة التشرذم والتشظي التي تمكنت من القوى السياسية المدنية والتي لن تنتج سوى المزيد من التأزم والفشل.

وللأسف، هذه الحالة متكررة على مر التجارب الديمقراطية في السودان، ولعبت دورا رئيسيا في إصابة هذه التجارب في مقتل، مثلما ظلت وقودا لدوران الحلقة الشريرة في البلاد، حيث تعاقبت الديكتاتوريات والانتفاضات والديمقراطيات الهشة. وقلنا إن استمرار التشظي والانقسام يؤكد الاتهامات بأن النخب السياسية السودانية لا تستفيد ولا تتعلم من الأخطاء التي ترتكبها، بل وتكررها، وإن حالة من عمى البصيرة تتملكها فلا ترى نظرات الشك وعدم الثقة التي يرمقها بها الشارع ولجان المقاومة، مثلما لا ترى أن في مواجهة هذا التشظي والإنقسام يقبع الأكثر تنظيما وتماسكا الذي ضربت ثورة ديسمبر/كانون الأول مصالحه، يقبع متربصا متحفزا لاستغلال أي سانحة للتقدم خطوة في إتجاه ضرب الثورة وإستعادة فردوسه المفقود.

نحن نعلم أن الوهم المتشبع بداء المكابرة ورفض الإعتراف بالأخطاء، ويستعذب إلصاق الأخطاء وإلقاء اللوم على الغير، تسبب في انهيار إمبراطوريات كبرى على مر التاريخ. فقط المنظومة التي تعترف بأخطائها هي التي تستطيع أن تبقى حية ومتطورة ومتجددة ولديها القدرة على الإصلاح الذاتي لمشكلاتها. ويبدو أمرا عقيما أن يرى الشعب السوداني نفسه «السودانية الأبية» تبحث، دون جدوى، عما يثبت أقدامها حتى لا تقع في الجب السحيق، وهي ترى الخطر يحيط بها من كل الجوانب، ويحصي أنفاسها وأنفاس الوطن، حتى أن خطر «السودنة» ولا أقول الصوملة، أصبح هاجسا يطوف بقلب وخلد كل ابناء السودان. فلعنة الحرب لن تقتصر على ميادينها الكلاسيكية في دارفور والنيل الأزرق وكردفان، ولا على أتون نيران الحروب القبلية التى أثارتها حوافر نظام الإنقاذ الهمجية، بل، إذا لم يُخمد أوراها ويُجفف وقودها، ستمتد ألسنتها لتحرق كل الوطن، خاصة وأن مكمن الخطر ومصدر الشرر صار في كل شيء: في محاولات قمع فسيفساء التنوع والتعدد التى تلون البلاد، في إنقضاض قبيلة على أخرى بسبب الفشل في إدارة الموارد أو بسبب طريقة ادارة الصراعات اليومية، في السعي لإحتكار النظام للسياسة بقوة الحديد والنار، في الانهيار الاقتصادي ورهن البلاد للقروض والمعونات الأجنبية، في أن يصبح خبرا عاديا إعتداء قوة نظامية على قوة نظامية أخرى، وتبادل إطلاق النار بسبب مشادة كلامية بين مواطنين وقوات نظامية، وضبط أسلحة خفيفة وثقيلة في أماكن مدنية متفرقة، في تدني قيمة العمل إلى أدنى مستوى مقابل هوس الثراء والكسب السريع بأي وسيلة ولو على حساب الوطن، في تحول العمل السياسى من تكليف عام يتم خصما على المصلحة الشخصية الى مكوك صاروخي للوصول للثروة، في ازدياد حدة الانقسامات والصراعات بين الحركات السياسية المعارضة إلى درجة الإقتراب من الضغط على الزناد، وفي أن تكون كل هذه المظاهر مدعومة بخطاب غوغائي وهجمة شرسة على قيم وأخلاق المجتمع السوداني.

في العام 1989، كان عمر الوطن 33 عاما. كان لا يزال غضا مستمتعا بريعان شبابه، ويحلم بالمستقبل الأفضل، عندما إنقضت عليه فجأة كتيبة الإنقاذ لتشبعه في الثلاثين عاما التالية من سنوات عمره، ضربا ولكما وتقتيلا، حتى لم يبق من جسده شبر إلا ومسته طعنة سيف أو ضربة رمح. أحكم نظام الإنقاذ قبضته على البلاد بسلاح الطغيان والاستبداد والفساد والإفساد، وكانت النتيجة أن تغذت العصبيات و«تربربت» في مستنقع الشمولية الآسن. وحرّك حجر الطغيان وعنف الدولة دوائر عنف أخرى، ليزداد خلل المعادلة المختلة أصلا، حتى جاءت ثورتنا المجيدة لتصحح المعادلة. ولكن، الأمر المخيف فعلا، أن تظل نخبنا السياسية المدنية والعسكرية تتجرع كاسات العجز، لا تحرك ساكنا، بينما ناقوس الخطر ظل يدق بصوت عال في كل البلاد، ومنذ فترة طويلة، ومع ذلك ظل بعضنا إما يسمعه خافتا فلا يستشعر مغزاه، أو يسمعه ويتجاهله، والبلاد في مهب الريح تترنح وتقترب من حافة السقوط. وبالأمس، إذا كانت المعارك الطاحنة وسياسات الأرض المحروقة هي سمة صراعات الإثنية والغبن والتهميش وتعمق الشعور بالظلم، فالبلاد في مقبل أيامها قد تستقبل مرحلة تحول الصراع السياسي إلى معارك ونزاعات دامية. إنها لأخطر المراحل على الاطلاق، وتزداد خطورة مع حالة انسداد الأفق وحالة التشرذم والتشظي والمعادلات الصفرية.

لا بد من وقفة حاسمة، حتى لا يسقط الوطن. إنها فرض عين وليس فرض كفاية! وعلى العقلاء في كل الضفاف فتح الملفات على مصراعيها والإعتراف بأن الكارثة على مرمى حجر. لقد وصلت البلاد إلى مرحلة يصبح فيها أي جهد مبذول من أجل فئة أو أي إنتماء آخر غير الوطن، هو جهد بلا طعم ولا رائحة ولا لون ولا معنى. ومن هنا لا بد من كسر الحواجز المضروبة بين التحركات المقاومة في أكثر من منطقة وموقع، حتى تتخلق كتلة جديدة موحدة لإنقاذ البلاد، ضد تحول صيحات الإختلاف في الرأي إلى صيحات الحرب ومحاولات إلغاء الآخر، وضد ما يمزق جسم السودان إلى أشلاء، وضد أسباب كل ذلك، لا نجامل ولا نغض الطرف عن موضع الأذى، ولا نميع أو «ندغمس» حقوق ومطالب الجزء، بزعم أن الأولى هو الكل، فهذه معادلة شبعت سقوطا. هذا ما يجب أن نفكر فيه جميعا وبصوت عال، لا من أجل الاستمتاع بالتفكير وحلاوة العصف الذهني، بل من أجل إبتداع الخطط العملية وتنفيذها حتى لا يسقط الوطن. ونحن نمد أيادينا لكل من يوافقنا الرأي في بناء هذه الكتلة، غض النظر عن موقعه، أو من أين أتى، مادام فتح ذهنه واسعا للمراجعات الكبرى، ومادامت بوصلة خطى ضميره صارت تقوده ضد احتراق الوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.