هل القضاء وظيفة أم سلطة؟ لماذا كان قضاء الإنقاذ مما لا يؤتمن على فسادها؟

0 73

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

جاء قيس السعيد، طاغية تونس تحت التشكيل، بكلمة قيمة في الفيصل بين الديمقراطية والديكتاتورية في سياق حله لمجلس القضاء التونسي. فقال إن القضاء وظيفة لا سلطة. وهو بالفعل وظيفة في الدولة الطاغوتية بينما هو سلطة في الدولة الديمقراطية. فتجبره السلطة التنفيذية الطاغوتية ليكون وظيفة كما تجبر السلطة التشريعية على هذا ليخلو لها الجو فتبيض.

كانت أعتى الرياح بوجه لجنة إزالة التمكين ما أذاعته الثورة المضادة من أن القضاء هو الذي تختصم أمامه الحكومة مع من تتهمهم باللصوصية لإثرائهم من سدة السلطان. وامتثل لهذه الفرية، ببالغ الأسف، حقوقيين في صف الثورة. فتحرجوا بين سياستهم التي ناضلت الإنقاذ كنظام أخلى طرفه من ولاية المال ليعير العائرون فيه وبين ما شبوا عليه كمهنيين ممارسين من “قداسة القضاء”. فلم تقم بينهم مدرسة فقهية في نقد الإنقاذ كنظام أحال القضاء إلى وظيفة يعين الرئيس كادرها من العامل القضائي إلى أقصى سلمها ويشكل محاكمها كابراً عن كابر. وأجزل للوظيفة العطاء وتبارى أهلها في طلب مسراتها. وشهدنا، والدولة الانتقالية في بدئها، كيف تنادى القضاة برئاستهم إلى حفل توزيع السيارات الحكومية.

وهكذا تداعى حقوقيو الثورة إلى القضاء واستدبروا لجنة التمكين بينما كان القضاء الموروث نفسه مما انبغي أن يكون موضع مؤاخذتهم. وانخذلت أن يكون رفيق الصبا نبيل أديب من ظل يروج لفرية الثورة المضادة عن القضاء كالأصل في التحاكم لإخذاء لجنة تفكيك التمكين. ولم استنظفها منه بالذات وهو يرافع عن جماعة عضها التفكيك بنابه الأزرق.

القول بأن القضاء هو ميس التقاضي فرية حتى في بلاد القضاء فيها سلطة لا وظيفة. فللحكومة حق مصادرة أموال السحت أياً كانت بغير انتظر للقضاء. وتسألني من أين لي هذا الجراءة على الفتيا في القانون وأنا لست في قبيل الحقوقيين: أقول لك.

حدثتكم أمس عن فساد ريتا كروندول المراقب المالي لمدينة ديكسون (١٥٠٠٠ نسمة) بولاية إلينوي من ١٩٨٣ ألي ١٩٩١. كانت استولت على ٥٣ مليوناً من الدولارات استثمرتها في صناعة خيول السباق بينما كانت المدينة تُقتر على نفسها لقلة الموارد. والهم ذلك التباين القاضي الذي مثلت أمامه ليقول لها: “كنت تعيشين أحلامك على حساب مدينة تفتقر”. وانتجت هوليوود فلماً عنوانه “All the Queen’s Horses” عن هذه اللصوصية التي قيل إنها أكبر فضيحة مالية لمجلس مدينة أمريكية.

جاء في خبر جريمة هذه المراقبة المالية بيع أملاكها بالمزاد وفيها ٤٠٠ حصان. وسألت نفسي، وفي ذهني لجنة إزالة التمكين، إن تم استيلاء الحكومة على موجودها بعد المحاكمة أو قبلها. ووجدت نفسي أتورط شيئاً فشئياً في قوانين الحجز والمصادرة “forfeiture and seizure” الأمريكية لا يدي لا كراعي. وخلاصة علمي أنه من حق الحكومة، ممثلة في وزارة العدل، ألا تنتظر القضاء قبل أن تضع يدها على موجودات من حصل على ماله سحتاً.

المال بنظر قوانين الحجز والمصادرة مالان: ملوث وغير ملوث. والمثل على المال غير الملوث هو حساب بنكي أودع فيه المتهم ماهيته حلالا بلالاً. أما المال الملوث فهو ما حصل به عليه بطريق الإجرام أيا كان. ونقف هنا لنرى سلطة القضاء في حالتي المال المذكورتين. فلا سلطان للحكومة على المال غير الملوث إلا بكلمة من القضاء. أما في حال الملوث فلوزارة العدل أن تحجز عليه قبل محاكمة المتهم. ويكفيها بيان منها للقضاء باحتمال ارتكاب الشخص المعني لجريمة، وأن المال الذي بحوزته ملوث لارتباطه بتلك الجريمة. وتختلف قوانين الولايات بينها حول وجوب حتى مثل هذا البيان للقضاء. فقوانين ولايات ديلوار وماساشوستس وواشنطن عادة لا تلزم نيابتها العامة بالحصول على حكم قضائي بالإدانة قبل مصادرة الأموال والمنقولات. ولم تحتج وزارة العدل لإذن القضاء لتصادر في ٢٠١٧ مبلغ ٥٤٠ مليون دولار من شركة ماليزية مملوكة لدولتها لغسلها الأموال في الولايات المتحدة. وجملة ما صادرته الوزارة من المال السحت في ٢٠١٧ كان ٨ فاصل ٢ بليون دولار بزيادة ٦٠٠ مليون دولار عن سنة ٢٠١٦.

لا أعرف كيف يريد لنا الفلول ومن تبعهم بغير إحسان أن نعد مال رموزهم والعقار الفاجر الذي صك أسماعنا كسباً حلالاً لا ينقضه إلا القضاء. لو صح هذا لامتنعت الدولة الأمريكية من وضع يدها على موجودات السيدة كورندول في انتظار القضاء. فمال الإنقاذيين المصادر سحت بَين لدولة السفهاء منا. وهو مستباح للدولة التي خرج من خزائنها بخفة يد شيطانية. ومع ذلك وفر قانون إزالة التمكين للمعترض الاستئناف ثم القضاء. ولم تنعقد لجنة الاستئناف مما هو فضيحة ثورية أو “كِجار” ثوري طعنت في مشروعية اللجنة جزافاً.

صريخ الفلول عن أن أموالهم حرام علينا إلا بحكم القضاء تمحل. فنظم أفضل منا في الحقوقية مثل أمريكا تتعقب مثل اكتنازهم المال بإجراءات إدارية كما قدمنا. ويأتي القضاء بآخرة كما جاء قاضي السيدة كورندول ل”يردمها” سجناً بفطرة العدل والشفقة على الخلق.

ظهر من امتثال الحقوقية الثورية لفرية الثورة المضادةمن أن المال مقدس مُطهر لا يمسه إلا القضاء أنها لم تتعلم من نضالها الشاق الطويل ضد الإنقاذ أن القضاء سلطة لا وظيفة وما يترتب على هذا. فلم تتعلم من ذلك النضال أن قضاء الإنقاذ معجون فيها بينما لم تنس ما تعلمته عن تساميه في صالات الدرس والمحاكم الجنائية والمدنية.

“لقد عشتم أحلامك طولاً وعرضا على حساب وطن يفتقر”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.