خلافاً للجنوب جاءتنا دارفور بعلم الأرض من وراء أزمتنا الوطنية فهربنا منه للعرق

0 70

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

هذا جزء من حوار مع إبراهيم مختار علي من جريدة “إيلاف” قبل الثورة. أسعدتني أسئلة إبراهيم التي اتجهت إلى علم اجتماع قضيتنا السياسية. فاستمزجتها. ووجدتني فيها. وانطقتني مكنوناً.

سؤال: الأولوية في تشكيل الواقع هل هي البنى المادية والأطر الاجتماعية أم الوعي والفكر وبناءً على ذلك كيف تلقى شيوعيّ السودان الفكر الماركسي ووطنوه -بيؤوه في الواقع السوداني؟ وما تأثير الحركة الشيوعية على مسار الوعي السوداني؟

بتركيز الماركسية على أولوية الأساس المادي في فهم تطور المجتمع شدت بصر وعقل من تبنوها إلى حقائق مجتمعهم. وهذا حدث كبير إذا وضعنا في الاعتبار أن الحداثة الاستعمارية والمشروع الإسلامي، اللذين غلبا على سائر المتعلمين، طبعتا الصفوة على الاشمئزاز من واقعهم. فليس لديهم المزاج ولا الوقت لدراسته ثم تغييره. فهو لا يستحق الدراسة. فقد علمتهم المدارس أنه ينبغي تجديد واقعهم (بل إلغاؤه) بسرعة للحاق بالعالم. ولهم ضيق بواقعهم فيصفون السودان ب”الحفرة” وأن أهله مصابون ب”العقل الرعوي” وأنسابهم مختلقة كذابّة وهويتهم منتحلة.

أما الإسلاميون فاشترطوا للتعاطي مع هذا الواقع أن “يُغَّلطوا” الدين الذي سبقهم ويبدلوا أهلهم ديناً أفضل من دينهم. فجاؤوا ب”القبض” في الصلاة كعلامة من الدين الحق بدل “البسط” للأميين. للشيوعيين نصيب كبير في ترويج كلمات مثل “بدائي” أو “متخلف” في وصف واقعنا وأهله. وهذا جفاء. ولكنهم يختلفون في شيء هام وهو أن مادة التغيير عندهم هي هذا الواقع المتعين لا أضغاث التشهيات للحداثة الغربية. فاشتهروا بعبارة “التطبيق الخلاق للماركسية على الواقع السوداني”. وساقهم هذا إلى جعل دراسة واقع كل جبهة من جبهات عملهم من زاوية قواها الاجتماعية فريضة مرعية. وأصدروا “الشيوعي” بصورة خاصة لتكون منبراً لتبادل الخبرات بين الكادر في الشاغل القيادي للتعمق في الواقع الذي خرجوا لتغييره.

وأميز ما في هذا الشغل الشيوعي أنه أعتني بواقع جماعات سودانية لم تخطر لصفوة النادي السياسي مثل الكادحين وقوميات الهامش في جبال النوبة حيث أسسوا اتحاد مزارعي جبال النوبة. وكذلك في الجنوب. ومن أراد أن يعرف هذا النبل المعرفي الشيوعي فليقرأ كتاب الدكتور المرحوم مصطفى السيد “من مشاوير الحياة” ليقف على كيف طوع الشيوعيون لغات الإستوائية لتنطق بأوجاع أهلها. وبالطبع صار شهيراً كتاب كامل محجوب “تلك الأيام” بعد تهجم الرئيس البشير على الرجل. ورأى الناس من الكتاب كيف ضاق الشيوعيون المُرَّة ليلامسوا الواقع وأهله بقوة وعزيمة وفدائية. وأعدى ذلك الأخوان المسلمين الذين جعلوا حرب الشيوعيين أكبر همهم. فأكثر مواقف الأخوان تقدمية في مسألة المرأة (قبل الانقلاب) كانت محاكاة للشيوعيين ليستدرجوا النساء إلى دعوتهم بعيداً عن “الملاحدة”. لكن منذ أن تواضع الشيوعيون على أن الواقع الوحيد في السودان هو الكيزان دخلوا في ابلسة الخصم وضلوا ضلالاً بعيدا.

كيف ترى أزمة دارفور والمناطق الثلاث بمنظور سيوسيولوجي؟

وفرت أزمة دارفور فرصة (محزنة ما تزال) لننظر إلى أبعد من العرق والثقافة كالأصل في النزاع في السودان. فجاءت أول ما جاءت وبعنوان كبير بمسألة الحق في الأرض: هل نقبل بمبدأ الحواكير الذي الأرض فيه لمن ورثها كابراً إثنياً عن كابر أثني أم أنها ملك شائع لمواطني الدولة الحديثة ينالون حظهم منه بحسب قوانين تضعها تلك الدولة؟ لم تكن هذه القاعدة المادية واضحة في صراع الجنوب. كانت مسألة الأرض هناك أيضاً ولكن كان الجنوب كله أرضاً وطنية يريد الانفصاليون القوميون بترها من جسد الوطن. فعقدت الدولة الوطنية العزم على إبقائها داخل الوطن الجديد. حدث هذا في الكونغو مع انفصال كاتنقا، وفي نيجريا في انفصال شعب الإيبو في الستينات. فلا جديد. ولكن خالط نزاع الجنوب حول قومية الأرض عناصر عرقية وثقافية واضحة غطت على شاغل الأرض.

وهكذا جاءت دارفور بعلم اجتماع الأرض في الدولة الحديثة بصورة بارزة مع ظلال الفروق الإثنية (لا الدينية كما في الجنوب). وللأسف ما أن نشأت مسألة دارفور حتى رحّل النادي السياسي مصطلح الجنوب العرقي الثقافي لوصف أزمة الإقليم بغير تفكير أو روية. وكتبت كتابي “أصيل الماركسية: المقاومة والنهضة في ممارسة الحزب الشيوعي” أنعى على الشيوعيين دس عدة الماركسية عن تحليل نزاع دارفور من فوق قواعده المادية التي لم تخلق نظرية مثل الماركسية لتحليله بكفاءة. فوجدت الشيوعيين تبعوا “طيرة مبارية السيرة” من فسروا النزاع ثقافيا وكفى. كانت مسألة دارفور تستصرخ الماركسية، عصارة علم الاجتماع، ولكن لا مجيب. وأسمعت لو ناديت. فمن بين الشيوعيين من قرر سلفاً أن الماركسية ذاتها زمانها فات وغنايها مات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.