«حيّ بن يقظان» انتصار العقل التجريبي

0 70

كتب: واسيني الأعرج

.

هل انتصر العقل حقيقة في زمن استبدّ فيه الفقهاء باليقين والمعرفة؟
نص حكاية حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي (1105-1185 في قاديشا) جاء ليهز عرش اليقين الأعمى، فانتصر للعقل بوصفه الآلة الوحيدة التي تقربنا من نظام الكون وخالقه. ما عدا ذلك، فهو مجرد تخريف لا يوصل إلا للخراب، وأساطير لا ركيزة عقلية لها. لمن لا يعرف قصة حي بن يقظان، هي حكاية شخص يحمل اسم: حي، من أب اسمه يقظان. نشأ [نبت] في جزيرة بدون بشر ولا محيط اجتماعي. علاقته بالطبيعة والأصوات والنباتات والأشجار هي كل شيء بالنسبة له. ويبدو المظهر الفلسفي بين العقل والسجية العامة مثار نقاش عام مس المجتمع الأندلسي قاطبة. حي بن يقظان وإن رُبِط بابن طفيل، فهو ليس له وحده، هو ثمرة جهد مشترك بين أسماء ثقافية وفكرية وفلسفية معروفة وكبيرة أثرت بقوة في الثقافات الإنسانية، وفي مرتبة العقل.
أول مؤلف لهذا النص هو الفيلسوف الكبير ابن سينا، كتبه يوم كان معتقلاً. وكان النص وسيلته الوحيدة للحياة وتنفس الهواء الخارجي، أعاد من خلاله النظر في نفسه وفي كل ما حوله. من هنا، فالأبوة الطبيعية لهذا النص كان يفترض أن تعود له قبل غيره، فقد وضع فيه رؤيته الإشراقية التي تستهدف المصالحة بين الدين والفلسفة. بداية الحكي في هذا النص تختلف عن بداية ابن طفيل، تنطلق من الجزيرة التي ولد وكبر فيها حي، ولكن من النهاية، أي لحظة خروج جماعة للتنزه تلتقي بالمصادفة بشيخ مسن، هو حي بن يقظان. وعلى الرغم من العمر، فقد ظل الشيخ مشرق الوجه وحاد السمع والذكاء. الشيخ جاء من بيت المقدس، وكانت مهنته التجوال ودراسة أحوال البشر، وكان مثقفاً مالكاً للعقل الواسع والمعرفة وكان لوالده دور في ذلك. وتحدث مع الجماعة بعلم واسع، ومن ذلك موضوع الفراسة الذي يؤدي إلى كشف الأمور الخفية عن طريق مقدمات عرفانية بدهية. فيتحدث للمجموعة في موضوعات فلسفية كثيرة تتعلق بالإنسان وشهواته التي تشكل «الرفقة» الملاصقة للنفس البشرية، كما يسميها. وإن أراد الإنسان أن يتخلص من إغواءاتها، عليه أن يهاجر ويغترب نحو أرض لم يطأها أحد قبله. وهذا شبه مستحيل، لهذا على الإنسان أن يتمسك بأحكام العقل ليضمن قدراً من السعادة.
لكن للنصوص حياة تتجاوز أصحابها أحياناً، فقد تحرك هذا النص الذي أصبح معروفاً وفق منطقه، فنسخ مرات عديدة لينتهي إلى الشيخ الصوفي المغتال، شهاب الدين السهروردي، فيلبسه لباساً صوفياً عميقاً يتعمق الروح البشرية في علاقاتها المتوغلة مع الله.
وبعد زمن، أعاد كتابة حي بن يقظان وترتيبها وحكيها الفيلسوف ابن طفيل، بعد أن غير نظامها السردي الفلسفي إلى حكاية تمر الفلسفة عبرها وليس العكس. فتغير الحال، إذ دخلت الكتابة في عمق فعل التخييل، وهو ما ضمن استمرارية حي بن يقظان حتى اليوم، واقترابه من العمل الإبداعي، وإن لم يخل النص من الشطحات الفلسفية، وفر له بعداً قرائياً كبيراً ما يزال مستمراً حتى اليوم. من هنا كان لنسخة ابن طفيل صيت ثقافي وإبداعي مهم، أكثر اتساعاً من نص ابن سيناء والسهروردي. والنص لم يتوقف عند هذا الحد من الارتحال والتحولات، فقد وصل إلى يد ابن النفيس الذي ترك عليه ملمسه، وناقش ابن سيناء في أفكاره الفلسفية التي كانت تحاول أن تجد جسوراً بين الدين والفلسفة. لم تكن أفكار ابن سيناء تريحه أو تتماشى مع قناعاته المذهبية، وكان يرى أنها تحاذي الكفر والزندقة.
لكن النص الذي بقي وأثر في الغرب الكنسي وقتها، ومجَّده الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، وغيره، فهو نسخة ابن طفيل التي أعاد كتابتها وولفها، بحيث تصبح نصاً قابلاً للمتعة والقراءة للجميع، على العكس من ابن سيناء الذي كان يرى أن نصه للخاصة، الذين تخطوا عتبة معينة في المعرفة والثقافة.
ينفتح النص على الوضعية التالية التي تكوِّن الحجر الأساس في العملية السردية، أي لحظة انطلاق القصة بعد تجاوز توصيف للجزيرة، حيث لا حدث باستثناء علامة واحدة تفيدنا في التحليل (مكان يولد فيه البشر بلا أمهات ولا آباء)، لأنها اللحظة الجنينية لولادة حي الذي يشكل الشخصية الجوهرية في هذا النص المتكون من رباعي فاعل: الأخ الملك، أخته، الحبيب، ثم حي الذي كان ثمرة لعلاقة تحدّ للأخ الملك الذي رفض تزويج أخته من حبيبها بحجة أنه لا يصلح لها. نحتاج إلى انتظار اللحظة التي يخرج فيها الكاتب/ الراوي من تفاصيل الجزيرة الهندية. نلحظ أن هناك لحظتين للبداءة؛ لحظة الولادة من علاقة طبيعية حتى ولو كانت عصيانية، ولحظة الولادة من كتلة التربة التي تشكلت عبر الزمن في شكل كائن هو ثمرة لصيرورة غير مرئية. حالة أقرب إلى التشكيل الأسطوري منها إلى الطبيعة. هذه الثنائية الافتراضية هي ما يشكل البداءة Incipit الأساسية في نص ابن طفيل.
لا غرابة في الولادة من علاقة بين رجل وامرأة، حتى ولو تمت بشكل قاس (الزواج سراً) ترتبت عنه حيلة نكران الولادة بعد أن وضع الرضيع في الماء قبل أن تنقذه الظبية. البداءة الثانية التي اقترحها علينا النص تنطلق من نفس المعطيات العامة المتعلقة بالفضاء القصصي، ولكنها تتفرد عنها في الولادة التي بفعل تحولات الطبيعة، والطبيعة الأولى إنسانية، والثانية ثمرة صيرورة طبيعية، لأن الولادة تمت من تخمر الأرض نفسها، وظلت الثمرة تنمو في ظروف مناسبة حتى تشكلت نهائياً. ولا ينتصر الكاتب لجهة من الجهات، لكنه يترك المسألة لغزاً يدعونا إلى التفكير فيه، والذهاب بعيداً من أجل معرفة ما تخفيه القصة، لأنه منذ تلك اللحظة يبدأ السرد في الامتداد، وتتراكم الأسئلة. ونكتشف أسرار القصة أكثر لاحقاً، عندما يخرج حي من غمد الحضانة الحيوانية (الظبية) ويسرح في الحياة معتمداً على مشاهداته وحواسه، فيمر عبر سبع مراحل، وهي: أولاً، مرحلة حضانة الظبية حتى السبع سنوات، ثم مرحلة وفاة الظبية والعلاقة الأولى مع الموت، ومحاولته لمعرفة أسباب الموت. ثالثاً، مرحلة اكتشاف النار التي تتغير فيها الأشياء. رابعاً، تصفح الأجسام المحيطة به، في تعددها وتشابهها في المادة، واختلافها في الصورة. خامساً، اكتشاف الفضاء، وهذا دفع به أكثر إلى معرفة قدم العالم. سادساً، في الخامسة والثلاثين من عمره بدأت مرحلة العقل والاستنتاج. سابعاً، مرحلة تأملات حي، في معرفة خالق الوجود، وسعادته في اكتشاف سلطان العقل المقرّب للخالق.
المراحل السبع هي المراحل التكوينية التي جعلته يصل إلى الحقيقة المتعالية، دون وسيط (الفقيه) إلا قوته وحواسه وما رآه وتعلمه.
المبتغى الذي يستهدفه هذا السرد المتكاتف والمتضامن في كامل أدواته البنائية، هو أنه إذا كان الدينُ يستهدف إناطة اللثام عن الحقائق الوجودية، كالنفس والروح والموت والحياة، فإن حي استطاع الوصُول إلى الإيمان بالقوة المتعالية، الخالقة والمنظمة، بدُونِ شرائعَ مسبقة ولا فلسفة جاهزة. فقد وصل إلى الحقيقة بعقله وتأمله في الموجودات، لينتهي به المطاف إلى الإيمان بأن لِكُل موجودٍ سبباً وفاعلاً، وله غاية ومادة وجد منها. كل ما مرّ به من مراحل هي خطواته الثابتة نحو العقل الذي لا يتضارب مع الدين، الذي كان وقتها الفقهاء قد سطوا على تأويلاته وتفسيره، وكل من خرج عن نظمهم اتهم بالزندقة.
ما أشبه البارحة باليوم؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.