عنف البادية: والنظارة أولها البيعة على السمع والطاعة لحاكم الخرطوم

0 56
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لو أحسنت صفوة الحداثة فهم المطلب الملحاح لجماعات سودانية للنظارة لوقفت على حقيقة أن الإدارة الأهلية هي التي من وراء عنف البادية، لا صمام أمن البادية. فينطوي مطلب النظارة على غبينة لجماعة ريفية بلا دار، أو حاكورة، تاريخية، من وضعية “التبع” المهينة التي تجد نفسها فيها للجماعة صاحبة الدار التي استضافتها بأرضها. فالتبع علاقة مما يمكن أن تسميه “استعمار داخلي”، لو شئت، تُفرض فيها الجماعة صاحبة الدار رسوما للزراعة والسقيا على الجماعة التبع في دارها. وتجردها تشريعات الإدارة الأهلية الحكومية من صوتها السياسي بإخضاعها لسلطان ناظر القبيلة السيدة. ولذا كان مطلب القبيلة التبع للنظارة، بدار أو بدونها، بمثابة “حركة وطنية” للخلاص من استعمار مالكي الدار. وسنعرض أدناه لبولتيكا النظارة وضحاياها في نزاعات الرشايدة والهدندوة، والفلاتة والهبانية، والكواهلة والبطاحين، والحباب والبني عامر.
الرشايدة والهدندوة
جاءت الرشايدة متأخرة إلى شرق السودان بعد أن توزعت الجماعات مثل الهدندوة أرضه دوراً تاريخية خالصة لها. ومع اعتراف الإنجليز بحقوق الهدندوة التقليدية في دارهم إلا أنهم أذنوا للرشايدة بالانتفاع بأرض الهدندوة بمقتضى قانون للأراضي في ١٩١٨. وكان دخول الرشايدة في مراع الهدندوة مثار نزاعات شغلت الإداريين الإنجليز. وفي كل حالة تعد منهم في أرض الهدندوة كان الإنجليز يردونهم إلى حقيقتهم ك”تبع، مؤمنين على حق الهدندوة في دارهم، ولزوم أن يدفع الرشايدة لهم حق البئر والرعي والزراعة. وهي استحقاقات تجدد كل عام. ومن ذلك تأكيد لحق الهدندوة في رفض بذل مواردهم للرشايدة في سنوات المحل.
وبدأ الرشايدة بطلب النظارة على عهد نميري. ومال محافظ كسلا إلى منحهم لها في حين وقفت صفوة البجا بوجهه بنفس حجة أنه ألا دار لهم. واقتطع لهم المحافظ مع ذلك أرضاً حول مدينة كسلا لإنشاء قراهم فيها.
وقف الرشايدة مع حزب الأمة، الذي وعدهم بالنظارة، بعد زوال حكم نميري في انتخابات ١٩٨٦بوجه الختمية الغالبة. وعارضت نظارات الحلنقة والهدندوة والبني عامر خطة الحزب بقولهم إن الرشايدة ضيوف عليهم بلا دار التي هي استحقاق النظارة. وحجتهم في عدم اقتطاع أرض للرشايدة بين أتبرا وستيت أنها ستتحول إلى وكر للتهريب عبر الحدود لا للزراعة. وتنازلت حكومة حزب الأمة الائتلافية عن وعدها لهم بالنظارة لتعترف بهم كجماعة مستقلة بغض النظر تحت “رأس إدارة” منهم.
وبلغ بالرشايدة الضجر من هذا التشرد حد الخروج بتنظيم مسلح هو الأسود الحرة لوضع نهاية له. وحين سئل مبروك سليم مبروك، أحد زعمائهم، عن سببهم سلوك طريق العنف السياسي قال إنهم ظلوا لنحو قرنين في السودان بلا أدنى اعتراف بوجودهم.
الفلاتة والهبانية
اصطرع الهبانية والفلاتة حول الدار في ٢٠٠٥ وتكرر منهما ذلك في ٢٠٠٩. فعقيدة الهبانية أنهم أهل الدار التي استضافوا فيها الفلاتة في تلس، والمساليت في قريضة، والزغاوة في العمود الأحمر، وسلامات تشاد، ومحاميد النيجر. واستنكروا في ٢٠٠٥ هجوم الفلاتة والسلامات عليهم وهم من نزحوا إلى الهبانية فوفرت لهم “العيش في حاكورتها”. ووصف بيان للهبانية الهجوم ب”طعنة في الظهر”. وشدد على “حق القبيلة في بسط أعرافها، وتقاليدها على كامل الأرض التي تمثل حاكورتها تاريخياً. وأن يلتزم جميع من يعيش في كنفها وأرضها بهذه المبادئ”.
ومن ذلك أن الهبانية طردت السلامات، الذين عاشوا في كنفهم في منطقة ود هجام، من دارها بعد مشاكل تسببوا فيها. واشتكى الهبانية أن دولة الإنقاذ فتحت باب الهجرة لعرب تشاد لتستقوي بهم، وتجنسهم، وتنتظر دعمهم في الانتخابات. بل جاءت الإنقاذ بنظام الأمارات، الذي هو “نظارة” من لا يملك، الحكومة، لمن لا يستحق، أي عرب تشاد. أما الفلاتة فقالوا إن تلس دارهم. فكانوا ضمن قبائل دارفور تاريخياً. وبيدهم وثيقة تمليك من السلطان علي دينار (-١٩١٦) إلى شيخ الفلاتة بتلس يأذن لهم بالبقاء فيها. غير أن الهبانية تمسكت بملكيتها لتلس التي كانت تتبع لمجلس برام، عاصمتهم الإدارية، واقتطعتها دولة الإنقاذ لتجعلها محافظة بحالها مكافأة للفلاتة لخدمات قاموا به للإنقاذ.
الكواهلة والبطاحين
وكان لكواهلة النيل منذ السبعينات مطلب النظارة استقلالاً من نظارة البطاحين. ووجدوا السانحة لتجديد مطلبهم بقيام المجلس العسكري بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ الذي كان يصطنع قاعدة قبائلية سياسة اجتماعية له. فدعت لجنة الكواهلة العليا لمهرجان “السمع والطاعة” للمجلس في قول خطيبهم. ثم جددت الطلب في ٢٠٢٠، ولكنها أرجأته حتى لا تفسد ما بينها وبين البطاحين. ثم عقدت مهرجاناً للمطلب في ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٠. وشاع أن الفريق خلاء حميدتي سيحضره، ولكنه لم يحضر. وتحامر الكواهلة مع البطاحين ما أدى بالحكومة لإعلان حالة الطوارئ في المنطقة.
الحباب والبني عامر
احتفلت الحباب باستعادة نظارتها في ٢ فبراير ٢٠٠٧ بعد عيشهم لنحو ٦٠ عاماً تحت نظارة البني عامر. وكان فقدانهم لها فيما يبدو أثراً من السياسة البريطانية التي سعت لتجميع القبائل الصغرى تحت مظلة قبيلة كبيرة يكون زعيمها ناظراً عليها جميعاً. والمعلوم أن قبائل البني عامر السبع تمتعت قبل الخطة الإنجليزية باستقلال ذاتي تحت إدارة من أهلها. وكان اجتماعها كقبيلة لا يقع إلا في شرط الحرب ضد جماعة أخرى. ولم يسعد الحباب بنظارة البني عامر عليهم متظلمين من أن الناظر كان يَرغَم لأهله من النائباب. فنجحوا في استعادة نظارتهم بفضل الطاهر إيلا والي البحر الأحمر الذي تلقى البيعة من ناظرهم محمود كنتباي حسين في حفل كبير بمدينة بورتسودان.
لاحظ البيعات هذه. ونختم كلمتنا هذه بنزاع المعاليا والرزيقات الذي تفجر أول ما تفجر في ١٩٦٥. وكان أول ما صدم جيلنا في أكتوبر، وعرفنا منه بصورة غامضة أن الريف ليس على ما يرام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.