أبو سليم: أن تسكن إلى السودان . . . لا فيه (١-٢)

0 64
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تعود هذه المقالة إلى منتصف العقد الأول من القرن تطرقت إلى نزاع شعبي المعاليا والرزيقات المضرج حول الدار والنظارة في ١٩٦٥ كما عرضه محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “الشخصية السودانية”.
قال لي الأستاذ الحبيب الطيب محمد الطيب يوم عدت من بعثتي من الولايات المتحدة عام 1987: “يا البديري هل تريد أن تسكن معنا أو إلينا؟” قلت “كيف؟” قال : “هل ستقول كلما صادفك ما لا يعجبك في البلد والله في امريكا الحكاية بعملوها كدا وكدا؟” وفهمت. وهذه فطانة تعودتها من الطيب منذ تعارفنا في منتصف الستينات وعلمها غميس. وهو علم الميثاق النفسي مع حقائق هذا البلد وإصلاحه بالسكون إليه أولاً لا بالهروب للأمام تشهياً للعالم. ولخلو وفاض القوى الحديثة من هذا الميثاق النفسي أخذت منذ حين تشهر حداثة العالم علينا، وتُشَهر بنا، لا أن تترفق بنا حتى نبلغ من تلك الحداثة ما نريد أن نبلغ منها. وقال جوليوس نايريري يوماً لمثل هؤلاء لا تستبطئونا فلقدمنا رافع ولخطونا إيقاع.
وترتب على خلونا من هذا الميثاق التفسي أننا لم نعد نعرف عن سبل كسب العيش في ريف السودان وعلاقاتها منذ “في القولد. . .” أو أن نهتم أن نعرف حتى. فكل السودان الريفي عندنا باطل وسيتجرع الحداثة وإن طال السفر. وأخرجت البادية السودانية أثقالها منذ عقدين أو أكثر ولقينا محنها مجردين من أل المعرفة وإضافة النظر. وخضنا في المسألة خوضاً بغير علم لا من الرأس ولا من الكراس. وأفسدنا كثيراً. وقد فرطنا في اكتساب العلم بريفنا وجغرافيته وكسبه الروحيين بغير سبب سوى تلفتنا عنه إلى علم لا ينفع.
لربما تأخرت الصفوة السياسية طويلاً جداً في أخذ أمر ملكية الأرض وشغبها في فيافي الريف حتى اقتحم دواسها الدامي صحن دار الصفوة وعكر صفاها. فالمتدبر الفطن ربما علم من نزاع الرزيقات والمعاليا الدامي في 1965 أن الأشياء ليست على ما يرام في أرياف السودان. فقد حز نزاعهما النفوس لكثرة ضحاياه ثم ما لبث أن خمل ذكر الريف في مضمار مشاغل المحدثين السياسية. فهو متروك عند المحدثين إلى الإدارة الأهلية. وهو ما سماه الدكتور محمود ممداني بترسم طبقة الحكام الوطنيين في عهد الاستقلال خطة سلفهم الإنجليز في الحكم غير المباشر أو الإدارة الأهلية. فهي واسطتهم التي لا غيرها إلى اهل الريف.
وأول من لفت إلى الأصل المادي في سياسات النزاع القبلي (وهو عند المحدثين دليل على بدائية قومهم) ومترتباته على الشخصية الوطنية أو الهوية هو الدكتور أبو سليم في كتابه “في الشخصية السودانية” (1979). فقد كان أبو سليم من بين من حققوا في نزاع فاجع في بادية دارفور بين الرزيقات والمعاليا علاوة على أنه كان من بين أعضاء لجنة تكونت في 1965 لتنصح بشأن توفيق أوضاع الإدارة الأهلية. ودعا أبو سليم في كتابه إلى الدرس المتأمل للتناقض بين مقتضي الحداثة وأعراف الريف التليدة. فقد طلبت المعاليا عبر قرنين وأكثر، وفي ملابسات تطورات إقتصادية وسياسية وإدارية مختلفة، أن تستقل بدار قبلي خاص بها بعيداً عن هيمنة الرزيقات. ولكن أعراف ملكية الأرض في البادية حالت دون مطلوب المعاليا. فالدار التي يريدون حيازتها هي للرزيقات منذ استضافوا المعاليا الوافدة من كردفان على أيام قدوم الأتراك في 1821. ونأخذ هنا بما قاله أبو سليم ونعرف أن للمعاليا وجهة نظر أخرى في الأمر.
واغتنم المعاليا سانحة ثورة اكتوبر 1964 المعادية للإدارة الأهلية لتجديد مطلبهم بمواطنة سودانية مقعدة على دار مفروزة لهم وعلى أرض خدموها لأكثر من قرن. وقال أبو سليم إن هذا التناقض حق ولا يمكن مداراته ولا يصح لنا ذلك. وشبه مجتمعنا بصبي ظل يكبر على قميصه ويفتقه يوماً بعد يوم بينما يصر والده أن الفتوق عابرة ويجدي فيها الرتق. وحذر من حياكات الفتوق الموضعية بدلاً عن أخذ الجسد النامي فوق محابس قمصانه القديمة بالدرس والجدية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.