منصور خالد: الإدارة الأهلية حبيبتي

0 89
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
ناصبت القوى الحداثية البرجوازية الصغيرة العداء منذ نشأتها للإدارة الأهلية. ثم جربت التضييق عليها، أو حلها، بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤ وبانقلاب مايو. وعادت من التجربتين وقد احترقت أصابعها. فنجحت الثورة المضادة في جعل الإجراءات التي اتخذتها ثورة أكتوبر وزراً سياسياً، بل عاراً. وحملتهما اليسار بالذات في حين أن تلك الإجراءات كانت قد صدرت من مجلس للوزراء كان للأحزاب التي روجت الأضلولة عنا ممثلة فيه ولم تعترض عليها. وكانت التجربة الثانية “جليطة” بحق لأن حل الإدارة الّأهلية في ١٩٧١ كان هرجاً صدر من علو الانقلاب الفوق. وكانت حداثية رعناء لم تصمد في الواقع. وارتد حل الإدارة الأهلية خاسئاً حسيرا.
وصمتت البرجوازية الصغيرة الحداثية عن حديث الإدارة الأهلية المباح. لا تقول بغم. بل بدأت تكتشف، وهذا مؤسف، في شيببتها ميزات فيها خفيت عنها في شبابها.
واستغربت لمنصور خالد، فانوس البرجوازية الصغيرة، لا يصمت عن الإدارة الأهلية خجلاً من فشل قبيله في حصارها، بل يطنب في مدحها. فأسمع له يرفع راية الاستسلام للإدارة الأهلية التي سبق له حربها مع جيله الحداثي، ويطري عبقريتها للعالمين في آخر كتبه “شذرات” (٢٠١٨):
القيادات الأهلية لم تكن جماعات أوتوقراطية مهيمنة كما تصفها بعض الجماعات اليسارية، بل كانت مؤسسات تكفل الحقوق للأسر والأفراد، وتدير النزاعات بين المجموعات، وترسخ الأمن المجتمعي في جو من الحوار والتعافي.
وشوف “اليسار” يواتيه سهلاً في التخلص من ذنوبه.
ومصدر استغرابي أن منصوراً من حث الصفوة في منتصف الستينات في كتابه “حوار مع الصفوة” للخروج من عزلتهم بوصل عراهم بالريف مستودع القيم التقليدية التي تقف كثير من تصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي. وهو استحثاث للصفوة للأخذ بيد الريف حتى لا يسلم زمامه لآبائه الطبيعيين من زعماء الطرق الصوفية والعشائر فيبقى مستودعاً لاستجلاب الناخبين والهتيفة. وبدا له في أول التسعينات في “الصفوة وإدمان الفشل” أن الصفوة قصرت عن ما كلفه بها من تحديث الريف فاستكانت لمجتمعها وقيمه الموروثة.. فقال إن مصدر الأزمة السودانية هو استكانة الصفوة لجبر المجتمع الوصائي (patriarchal) الذي يُعلي النسب على الكسب، وتتناقض قيمة السائدة مع العقلانية وفردانية المجتمع المعاصر.
ولا سبيل بالطبع ألا تعد رجال الإدارة الأهلية ضمن هذه الطبقة الوصائية التي عينها منصور ليعيب على الصفوة خضوعها للقيم الموروثة التي تتعارض مع ما يدعون إليه بعد رفع يدهم عن تقويض المؤسسات التقليدية التي تعوق هذا التجديد. فكيف ساغ لمنصور يدبج الثناء لنظام الإدارة الأهلية في خاتمة كتبه وهو الذي هاجمه بلا هوادة عبر كتبه الأخرى؟ كيف دعا في شبيبته لهدم ما ظن فيه الإحسان والحق في شيبته؟ هذه شيزوفرانيا يبدو أنها متلازمة في المصابين بالحداثة الاستعمارية.
وكان معاوية محمد نور (١٩٠٩-١٩٤١)، فانوس جيله الحداثي، أول من راد الكتابات الناقدة للإدارة الأهلية. فعين نشأتها في حلف للإنجليز مع “ارستقراطية الجهل والرجعية” بعد تغاضيهم عن الفئة المستنيرة بعد ثورة ١٩٢٤. فالإدارة الأهلية عنده سياسة إنجليزية مثيرة لعداوات الأجناس لأن الانجليز خولوا المشائخ سلطات “مطلقة عمياء في النهي والأمر” تقود لا محالة إلى ” إنتشار الرشوة وقيام المحسوبيات ونشوء الحزازات وتدهور الحياة الخلقية للقرية”. وأراد الإنجليز بها أن تثبط السودانيين ليبقى السودان على حالته الأولى لتضمن بقاءه تحت حكم بريطانيا. وسمى تك السياسة “رجعية” مستنكرة من دولة بكعب عال في الحضارة لم تأنف محاربة نهوض الأمم.
ونعرض في مقام خيانة الحداثيين للحداثة كلمة أخيرة عن آراء محمد أحمد محجوب في شبابه التي لم تترك للإدارة الأهلية فيها جنباً ترقد عليه. ثم نكص أو نكث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.