أين نحن العرب من التاريخ الجديد الذي يصنع اليوم؟
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
تفرض يوميات الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها تساؤلاتها الكثيرة على الحكومات العربية التي تبحث عن تموضع يعظّم من مكاسبها ويحد من خسائرها في لحظة عالمية خطيرة وملتبسة، مثلما تدفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي إلى تبني مروحة واسعة من المواقف المتفاوتة من تأييد العدوان الروسي إلى التعاطف مع الضحية الأوكرانية مرورا بشجب المعايير المزدوجة للغرب الذي يرحب باستقبال اللاجئين الأوكرانيين ذوي البشرة البيضاء بعد تشييده للأسوار في وجه العرب داكني اللون الذين فرض على بعضهم الموت غرقا وتجمدا وتيها على أبواب أوروبا.
مع اقتراب الحرب من أسبوعها الرابع، صار واضحا أن عالمنا إزاء حدث مفصلي تقاربه القوى الغربية على نحو وتتعامل مع الحكومة الروسية على نحو آخر وتنظر له الصين على نحو ثالث. تجاوز الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الكبرى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا صدمة العدوان الروسي سريعا، وانتقل سياسيا إلى فرض حصار اقتصادي ومالي وتجاري وتكنولوجي واسع على روسيا وإلى الضغط لوضع الدول الفاعلة في المنظومة الدولية كالصين والهند والبرازيل أمام اختيار حدي بين دعم العقوبات الغربية والامتناع عن الالتفاف حولها وبين مواجهة عقوبات التنصل من العقوبات التي جعلت من روسيا الدولة الأكثر تعرضا للعقاب الغربي في عالم اليوم (ولتزيح بذلك إيران من صدارة قائمة بها دول أخرى كفنزويلا وسوريا والسودان وميانمار). خطابيا، انتقل الغرب إلى توصيف الغزو البري الأكبر الذي تشهده أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) كحرب ضد الإنسانية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمجرم حرب وإلى اتهام روسيا الاتحادية بالمروق وتهديد السلم والأمن العالميين والسعي إلى إسقاط الحكومة الديمقراطية في أوكرانيا. خطابيا أيضا، انتقل الغرب إلى خانات المزاوجة بين العدوان الروسي وبين انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية في تسعينيات القرن العشرين وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001 كأحداث فارقة في تاريخ عالمنا تصنع تحولات جذرية في “الما بعد” مقارنة “بلما قبل”.
غير أن الحكومات الغربية في تصعيدها ضد روسيا تواجه معضلات استراتيجية كبرى، منها، على سبيل المثال لا الحصر، استحالة استمرار سياسات ضبط التسلح ومنع الانتشار النووي عالميا دون روسيا، وضرورة حضور روسيا ومصالحها في ترتيبات الأمن الأوروبية إن أريد لها الفاعلية، والاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي الروسي، وحيوية الإنتاج الروسي من النفط لاستقرار سعره العالمي، والإسهام الكبير للحاصلات الزراعية الروسية في تأمين الغذاء للعالم. ومنها أيضا، وكما تدلل تصريحات الرسميين الصينيين والهنود مؤخرا، محدودية استعداد قوى كبرى كالصين والهند لمشاركة الغرب حصاره على روسيا وغياب البدائل الفعلية للغاز والنفط الروسيين على المديين الزمني القصير والمتوسط، بل ومحدودية صدقية الخطاب الغربي الرافض للغزو والاحتلال والدعم الأمريكي والأوروبي للاحتلال والاستيطان الإسرائيليين يتواصل على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
عالم مغاير وتاريخ جديد يصنعان اليوم، ونحن العرب حكومات وشعوبا في حيرة من أمرنا وقلق من النتائج والتداعيات. الغائب الأبرز عربيا هو القراءة الاستراتيجية الهادئة لأمننا ومصالحنا وأولوياتنا والسياسات التي يتعين علينا تنفيذها لضمانها
أما الحكومة الروسية فأطلقت آلتها العسكرية باتجاه أوكرانيا متذرعة بمقتضيات أمنها القومي التي تلزم بنزع سلاح أوكرانيا والحيلولة بينها وبين الانضمام إلى حلف الناتو ومطالبتها بإتباع سياسة الحياد على شاكلة السويد والنمسا، ومتعللة أيضا بحماية المجموعات السكانية الروسية القاطنة في إقليم دونبسك وفي مناطق أخرى في شرق وجنوب أوكرانيا من عنف “القوميين المتطرفين والنازيين الجدد” الذين اتهمت موسكو حكومة فلوديمير زيلينسكي بدعمهم، ومتجاهلة لكون حربها هي غزو عسكري لدولة مستقلة ذات سيادة وتتمتع بعضوية منظمة الأمم المتحدة التي سبق وأدانت العدوان الروسي على الأراضي الأوكرانية في 2014. إزاء التصعيد السريع للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا وحصارها بعقوبات الحكومات وبالضغط على الشركات والمصالح الخاصة للانسحاب من سوقها، انتقلت حكومة بوتين في خطابها التبريري العلني إلى المزج بين الحديث عن مقتضيات الأمن القومي التي فرضت “العملية العسكرية النوعية” في أوكرانيا وبين استدعاء مقولات العداء التاريخي للغربيين ضد روسيا التي يريدون إضعافها والقضاء عليها وإلى توصيف العقوبات كمرحلة جديدة في عدوانية الغرب الراغب في السيطرة على النظام العالمي كقطب أوحد وتقزيم روسيا إلى دولة تابعة لا يعتد بمصالحها ودورها وإمكانياتها وفرض إرادته الأحادية على الإنسانية المعاصرة وإخضاع الدول وفقا لأهوائه على النحو الذي فعله في غزو أفغانستان 2001 والعراق 2003 وفي حربه الممتدة على الإرهاب.
غير أن انتقال الخطاب التبريري الروسي إلى التنديد بالأحادية والعدوانية الغربية والربط بين غزو دولة مستقلة ذات سيادة وبين بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يعيد إنتاج سلام وأمن الثنائية القطبية وتوازن الرعب النووي بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية لم يفلح في إقناع الكثيرين بسلامة السياسات الروسية التي تورطت خلال العقود والسنوات الماضية في “عمليات عسكرية” بالغة العنف والتدمير والدموية في جمهورية الشيشان وجورجيا وسوريا صارت مآسيها تقارن بأهوال الأوكرانيين (صوتا وصورة بفضل دور وسائط وشبكات التواصل الاجتماعي). تتناقض حقائق عنف ودمار ودموية الآلة العسكرية الروسية مع الترويج لسعي موسكو لصناعة نظام عالمي جديد تضمن تعددية أقطابه السلام والأمن، مثلما يتناقض القمع الممنهج داخل روسيا للأصوات المعارضة لغزو أوكرانيا (يصفهم الرئيس الروسي بالحثالة والخونة) مع الترويج للدفاع عن حرية المجموعات السكانية الروسية في مواجهة القوميين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا. ويتناقض مع طرح روسيا كقوة كبرى ذات دور مقارع للولايات المتحدة الأمريكية وإمكانيات عسكرية لا تقل عن عتاد وتكنولوجيا الناتو واقع التعثر العسكري في أوكرانيا التي لم يسيطر بها الجيش الروسي وبعد أسابيع من القتال لا على المدن الكبيرة ولا على المناطق الشرقية والجنوبية الحاسمة استراتيجيا ويتعرض بها لخسائر تذكر البعض بحصاد الحرب الروسية – اليابانية في بدايات القرن العشرين (1905) التي أعقبها انهيار النظام القيصري (1917) وتعيد للبعض الآخر الذكرى الأقرب للهزيمة العسكرية السوفيتية في أفغانستان بين غزو في 1979 وانسحاب في 1988 أعقبه انهيار الاتحاد السوفييتي (1991).
على صعيد ثالث، بين ثنايا تناقضات السياسات الغربية والروسية وعلى هوامش المقولات التبريرية التي تستدعى هنا وهناك يصعد نجم الصين كقطب عالمي ذي توجهات مستقلة وهادئة وبعيدة عن عقوبات الغرب وعمليات الروس العسكرية. على عكس روسيا الاتحادية ذات المردود الاقتصادي والتكنولوجي المحدود والبعيد سنوات ضوئية عن الغرب، تستند الصين، وهي تنتج اليوم خطابا متوازنا بشأن ضرورة حفظ السلام والأمن العالمي وحتمية الاعتراف بكون عالمنا هو عالم متعدد الأقطاب لم تعد الأحادية الغربية مقبولة به، إلى قوتها الاقتصادية والتكنولوجية التي تقارع بالفعل القدرات الأمريكية والأوروبية وإلى إمكاناتها العسكرية وإلى عمقها الاستراتيجي العالمي في دول الجنوب وهي التي صار لها بجانب الغرب سياقات عديدة أخرى للتجارة والاستثمار والتعاون مع آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
جاء لافتا حديث وزير الخارجية الصيني قبل أيام عن كون بلاده تقف على “الجانب الصحيح” من التاريخ فيما خص “الأزمة الروسية – الأوكرانية”. اللافت هنا، من جهة، هو الثقة الصينية التي قارعت الاستدعاء الغربي المستمر للتاريخ والولع بأحاديث البدايات والتحولات والنهايات (خاصة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ونهاية الحرب الباردة القديمة) بمقولات عن التاريخ تضع العملاق الآسيوي في مرتبة أخلاقية وسياسية أعلى من الغرب وروسيا وتدفع بالصين إلى زعامة الجنوب باسم عالم الأقطاب المتعددة القادم. اللافت هنا، من جهة ثانية، هو الثقة الصينية التي ترفض بهدوء الضغوط الغربية والتلويح بعصا المصالح الاقتصادية والتكنولوجية لكون العملاق بكين لا تقل أهمية في المجالين عن واشنطن وبرلين ولندن وباريس وتمتنع ملتزمة الحياد عن التورط في الدعم العسكري لمغامرة بوتين غير المحسوبة مرفقة بالتأكيد على أهمية الحل السلمي على نحو يضمن المصالح الروسية المشروعة ويصون استقلال أوكرانيا.
عالم مغاير وتاريخ جديد يصنعان اليوم، ونحن العرب حكومات وشعوب في حيرة من أمرنا وقلق من النتائج والتداعيات. الغائب الأبرز عربيا هو القراءة الاستراتيجية الهادئة لأمننا ومصالحنا وأولوياتنا والسياسات التي يتعين علينا تنفيذها لضمانها. كنا كعرب وكانت قضايانا على قائمة الخاسرين من انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، كنا كعرب من بين الضحايا المباشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001 ولحرب الغرب على الإرهاب، كنا كعرب من بين الضحايا المباشرين للأحادية الغربية (غزو العراق) وللمغامراتية العسكرية الروسية (سوريا). اليوم، آن أوان استدعاء ماضي استقلال الفعل الاستراتيجي العربي داخل منظومة الجنوب كما تجسد في حركة عدم الانحياز في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. اليوم، آن أوان التفكير الجاد في الأمن والمصالح والأولويات العربية بمعزل عن الأحادية الغربية الفاقدة لكل مصداقية أخلاقية والعسكرة الروسية الخالية من القوة الاقتصادية والتفوق التكنولوجي.