محمد الفيتوري مأساة شاعر وأحزان وطن.. الأيام والساعات الأخيرة
كتب: طلحة جبيل موسى
.
قبل سبع سنوات وفي مثل هذا اليوم أغمض الشاعر العظيم محمد الفيتوري عيناه، ونام نومته الأبدية . كنت وقتها قد كتبت عن رحيل من كتب “في زمن الغربة والارتحال”.أعيد نشر الكلمات كما كتبت يومئذٍ.
***
الآن وبعد أن تراجع المشهد الحزين الى بعض ظلال الذاكرة. طرح السؤال نفسه:
إذا لم أكتب أنا؟ فمن ؟ وإذا لم أكتب الآن، فمتى؟
لذلك بدا لي أن أتحدث، وأقول، وأروي، بل أوضح وأشرح وأصحح، خاصة أن القول تكاثر، والحديث خرج عن مجراه وموضوعه، والوقائع لم تسرد كما هي بل ابتسرت ، وفي بعض الأحيان جرى تحويرها، ثم أكثر من ذلك تزويرها.
ومع من؟
مع شاعر عظيم سيبقى رمزاً لوطن.
وطن عاش في دواخله. غادر دنيا الناس والوطن بين جوانحه ، ثم أن هذا الوطن ظل معه.. بأفراحه وعذاباته .
***
في ظهيرة السبت الخامس والعشرين من أبريل، شاءت الأقدار أن أكون في غرفة باردة سجي فيها جثمان الشاعر محمد الفيتوري.
كنا أربعة أشخاص في تلك الغرفة الباردة ، حيث رائحة الموت تملأ زوايا وأركان المكان.
كان هناك شقيقي الأصغر طارق، وموظف من مستشفى الشيخ زايد في الرباط، ورجل كلفته جهة حكومية مغربية بغسل الجثمان.
سحب موظف المستشفى الجثمان من الثلاجة، ووضعه فوق دكة أسمنتية في الغرفة التي كنا نقف فيها ثلاثتنا.
راح الرجل الذي سيغسل الجثمان يردد آياتٍ من الذكر الحكيم.
سألت طارق …هل سبق أن غسلت جثماناً؟
رد قائلاً : لا.
قلت له: عليك الآن القيام بالمهمة.
قلت في نفسي “على الأقل تكون هناك أيادي سودانية تغسل جسد هذا الشاعر قبل أن يوارى الثرى “.
إنهمك الرجل وطارق في مهمتهما النبيلة.
رحت أتأمل الجسد النحيل الذي هده المرض، وتراكمت فوقه السنون.
حدقت في الوجه كثيراً.
رسم الفيتوري وهو يغادر ابتسامة عريضة. إذ كما روت لي زوجته رجات أرماز، بقى ضاحكاً مبتسماً قبل دقائق من زفرات الموت.
لاحظت ابتسامته.
عندها قفزت دمعة الى المآقي. رحت أتأمل كيف أصبح الجسد بلا روح .
بعد أن انتهت عملية غسل الجسد، شرع الرجل يلفه بالكفن
وأخي طارق يساعده.
دخل الغرفة عمر زكريا رئيس الجالية السودانية في المغرب، وشرع في ترديد الآذان في أذن الشاعر كما تقتضي التقاليد الإسلامية.
كان رأيي وقتها أن تدخل زوجته “رجات أرماز” وابنته “أشرقت” ثم نزهة شقيقة رجات التي اعتنت به كثيراً في سنوات مرضه ، لتوديعه بالطريقة التي يرون.
طبعت زوجته قبلة على جبينه باكية حزينة واقتصر الأمر على بضعة ثوان، ثم تركت الغرفة ، وهكذا فعلت شقيقتها نزهة.
عندما جاء دور ابنته “أشرقت” ، وهي بعد شابة في الثامنة عشرة من عمرها ، لم تستطع تحمل اللحظة، عانقتني وهي تبكي ثم خرجت مسرعة.
وقتها تحولت الغرفة الى اعصار إنساني ، مشاعر وعواطف أفلتت من كل قيد، اختلط فيها الحب والحزن.
وقفت أمام الجثمان لبرهة وأنا أتأمل تلك الابتسامة التي رسمها الفيتوري وهو يغادر.
قفزت دمعة أخرى إلى المآقي.
بدا لي “الموت” شيئاً غامضاً ومثيراً.
بعدها نقل الجثمان الى سيارة إسعاف، بإتجاه “مقابر الشهداء” في الرباط قرب شاطئ المحيط الأطلسي.
كان ذلك هو المشهد الأخير.
***
قبل أيام من رحيل الفيتوري ، أتصلت بي زوجته رجات وقالت لي ” الأستاذ يسأل عنك، أظن أنه يرغب في وداعك”.
أفزعتني الفكرة، وزلزلت كياني.
قالت لي إنه يتألم كثيراً ولا يستطيع أن يشرح ما يحس به.
زادت ” لم يعد قادراً على الأكل، ولا يستطيع أن يقول كلمة واحدة، إذ أن لسانه لا يتحرك”.
قبل ذلك وفي فبراير الماضي، كنت إقترحت نقله الى المستشفى خاصة أن الأرق بات يلازمه.
كانت المشكلة هي كيفية توفير تكلفة المستشفى، إذ لم يكن له أي نوع من أنواع التأمين أو التغطية الصحية، إضافة الى إنعدام الموارد باستثناء ما كان يجود به بعض السودانيين في مناطق الشتات من تحويلات عبر بعض الحملات التي دأب طارق إطلاقها عن طريق الانترنيت.
كان أن جاء الفرج من تحركات صامته بادر بها الأخ خالد عويس.
كان خالد عويس ..”سودانياً”. هكذا عرفته من أيام واشنطن، ظل إنساناً نبيلاً شهماً.
تحرك في جميع الإتجاهات وكانت رسائله لا تزيد عن جملة واحدة “أتمنى أن أزوركم لأطبع قبلة على جبين محمد الفيتوري”.
اتصلت سفارة الإمارات بزوجته رجات وأبلغوها أن “فاعل خير” على استعداد لتغطية جميع تكاليف علاج الشاعر الفيتوري.
طلبت منهم أن يتصلوا بي. فعلوا ذلك.
كان اقتراحي أن ينقل إلى “مستشفى الشيخ زايد” في الرباط، وهو مستشفى خاص خدماته متطورة .
في 25 مارس نقل الشاعر الفيتوري الى المستشفى وبقي هناك يوماً كاملاً أجريت له جميع الفحوصات، وكان رأي الأطباء أن يعود الى المنزل مع تناول بعض الأدوية.
هكذا كان.
يوم الجمعة 24 أبريل ، وأنا ألقي درساً على طلابي في الدار البيضاء في حدود التاسعة صباحاً تلقيت مكالة هاتفية من “رجات” . أبلغتي أن حالة “الأستاذ” كما كانت تناديه، ساءت كثيراً .
كان اقتراحي أن ينقل فوراً الى مستشفى الشيخ زايد وسأتكفل بالترتيبات.
طلبت منها أن تتصل بسفارة الإمارات في الرباط لإبلاغهم ، وجاء الرد إيجابياً، مفاده أن أي تكلفة سيتحملها “فاعل الخير”.
في الحادية عشرة وصل الشاعر الفيتوري إلى “مستشفى الشيخ زايد”.
كان يردد الشهادتين ويقول مخاطباً زوجته وشقيقتها بعبارة واحدة ” أتعبتكم معي أستميحكم عذراً” .
كنت في تواصل هاتفي مع “رجات” حتى عدت الى الرباط في حدود الثانية بعد الظهر، أرتأيت المرور على الصحيفة التي أتولى رئاسة تحريرها، ثم أنتقل بعدها إلى “مستشفى الشيخ زايد”، وهي على بعد دقائق.
في الثالثة تلقيت من “رجات” إتصالاً هاتفياً وأنا بعد في مقر الصحيفة، تقول فيه قبل قليل طلب منا الأطباء مغادرة غرفته ، ووصفت حالته قائلة ” كان يبحلق في وجوهنا ويقبل أيادينا وهو يردد “سامحوني”، ثم وضع إبتسامة عريضة على وجهه.
قلت لها خلال دقائق سأكون معكم.
في الثالثة والربع خرج الأطباء من غرفته ، وأبلغت زوجته أن محمد الفيتوري غادر الحياة.
أتصلت بي وهي تنتحب وتقول “أخي طلحة صديقك رحل”.
بقيت فترة لوحدي في حالة وجوم .
تزاحمت الصور والمشاهد ولم تعد الدموع في المآقي بل سالت كثيراً .
كتبت تدوينة قصيرة ، في صفحتي على “فيسبوك”.
انتقلت الى المستشفي وجدت “رجات” عانقتها وبكينا سوياً.
كان هاجسي أن تغادر هي وشقيتها المستشفى.
توافد سودانيون على المستشفى، واسينا بعضنا بعضاً.
ذهبت مع رجات الى منزلهم في “ضاحية سيدي العابد” جنوب الرباط.
كانت هناك ابنتها “أشرقت” عانقتها. بكينا جميعاً.
قلت لهم سأتولى الآن جميع تفاصيل تشييع الجثمان.
كان رأيي أن يدفن محمد الفتوري حيث فاضت روحه لأن وصيته كانت واضحة “أرض الله واسعه ..أدفن حيث أموت”.
أتفقت مع أخي طارق على اللقاء في العاشرة من صباح اليوم التالي أي السبت 25 ابريل في المستشفى لترتيب عملية التشييع.
في اليوم التالي كنا جميعاً في الموعد، وطلبت من زوجته البقاء في المنزل حتى نفرغ من التشييع والدفن.
توافد عدد من أبناء الجالية السودانية ، وهي جالية صغيرة جداً مقارنة بالجاليات السودانية في الشتات.
أجريت إتصالات مع السلطات المغربية، وكان قرارهم أن المغرب سيتكفل بجميع ترتيبات الجنازة.
في زحمة الإتصالات تلقيت إتصالاً هاتفيا من “السفير” سليمان عبد التواب يقول فيها إن “رئاسة الجمهورية” قررت نقل الجثمان الى الخرطوم ودفنه هناك.اعتبر الأمر “مكرمة وتقدير كبير للشاعر الفيتوري”. ومضى يقول ” الفيتوري شخصية عامة وأصبح الآن ملكاً لبلاده”.
لم أعقب على هذا الهراء.
قلت في نفسي “أهملوه حياً ويريدون أن يستغلوه الآن ميتاً.. هكذا هم “هؤلاء الناس”.
طلب مني “السفير” المساعدة في تسهيل أمر نقل الجثمان الى السودان.
أضاف جملة اندهشت لها ” لا شك هذا تقدير كبير من رئاسة الجمهورية وتأكيد لإنتمائه الى السودان”.
بدت لي الإشارة الأخيرة مؤذية تماماً.
إذ من الذي يقرر الإنتماء أصلاً؟.
أجبت على المكالة الهاتفية باقتضاب، وكنت أعرف أن العواصف بدأت هبوبها.
كان رأيي إنني مع ما تقرره أسرته، وخاصة زوجته.
أتصلت هاتفياً بزوجته ونقلت لها ما قاله “السفير”، وأبلغتها وجهة نظري، بأن يدفن في المغرب ، إذ لا يعقل أن نخالف وصية الراحل.ثم أن “هؤلاء الناس” لم يهتموا بالرجل حياً على الرغم من الكتابات والمناشدات، والآن يريدون وضع أنفسهم في مقدمة المشهد.
وافقتني الرأي ، وقالت غاضبة “الأستاذ يدفن حيث توفي، ولو أدى الأمر الى أن أحضر الى المستشفى وأنقل جثمانه الى منزله”.
ثم قررت أن تحضر بنفسها الى المستشفى.وافقتها الرأي وقلت لها أنا معك لأن الوصية واضحة.
ثم بدأ مشهد من أغرب المشاهد .
مشهد لا علاقة له بسماحة السودانيين وأخلاقهم.
جاء “السفير” ومعه المستشار حمزة عثمان عمر.
أبلغني “السفير” شفوياً أن قرار رئاسة الجمهورية أن ينقل الجثمان الى الخرطوم ، مشيراً الى أن طائرة خاصة ستصل الرباط من أجل هذا الغرض، وقال إنه يحمل رسالة موجهة للمستشفى بعدم تسليم الجثمان.
كان جوابي لذلك “السفير” حرفياً كالتالي ، وكنت أعي وأعرف ماذا أقول ” أنا لا تهمني رئاسة الجمهورية أو رئيس الجمهورية ، ما يهمني تنفيذ وصية الراحل”.
أجاب بنزق” إذا لا تهمك رئاسة الجمهورية أنا تهمني “.
أجبته بوضوح ” هذا شأنك”.
وكان أن تعقد الموقف وتحولت ردهات “مستشفى الشيخ زايد” في الرباط، إلى مناقشات وجدال بدا بالنسبة لي غريباً.
تمسكت برأيي وكان ذلك رأي زوجته.
كانوا يرغبون في تسليم رسالة إلى المستشفى للإبقاء على الجثمان حتى تصل الطائرة، كان جواب زوجته حاسماً ذلك لن يتم إلا على جثتي. وكان موقفي مماثلاً، قلت لهم ذلك لن يحدث مطلقاً ، وعلى جثتي أيضاً.
وقعت إدارة المستشفى في حيرة.
كان اكثر ما اثار حفيظة زوجته ان زوجة “السفير” جاءت المستشفى وقالت لها بالحرف “انت مهمتك انتهت وكثر خيرك”.
هذه السيدة التي كانت تسهر الليالي الطوال لمدة عشر سنوات، يقال لها “مهمتك إنتهت”.
أين هي المروءة.
اشتد غضب زوجة الفيتوري و بعد ان سمعت تلك العبارة بادرت الى تسليم جواز سفر الفيتوري إلى (السفير) وقالت لهم “ليس لديكم شئ إلا هذا الجواز إذا تريدونه يمكنكم أن تأخذوه”.
جاء عندي المستشار حمزة واقترح أن أساعد على حل ودي، كان رأيي أن الدفن يتم في المغرب، هذا من حيث المبدأ، بعدها يمكنني تهدئة الأمور، ثم اقترحت أن تبلغ زوجة الفيتوري ” السفير” بكل هدوء هذا الموقف تلافياً لأي تصعيد.
وهو ماحدث بالفعل.
بعدها أبلغني المستشار حمزة عثمان عمر أنهم في “الخرطوم” وافقوا على دفن الجثمان في المغرب.
كان رأيي إن هذا هو الحل، وأن تتم الأمور بهدوء لأن أي إقتراح آخر لا معنى له، ولا يمكن أن يحدث.
وردت في حديث “السفير” عبارة مفادها أن دفن الجثمان في الخرطوم رأي أغلبية أسرته. قلت للمستشار مع الإحترام الواجب لأسرته، لكن عليكم أن تعلموا أن خمسة من أبناء الفيتوري مع دفنه حيث توفى، وهم أبناؤه الأربعة من زوجته المصرية الفلسطينية الأصل (من غزة) حسام وخضر وعزة ونانا إضافة الى ابنته “أشرقت”.
تزوج الراحل ثلاث مرات، كانت الأولى فلسطينية ورزق منها بأربعة أبناء (ولدان وبنتان)، ثم السودانية آسيا عبدالماجد ورزق منها إبنته سولارا وإبنه تاج الدين، ثم المغربية رجات ورزق منها بإبنته أشرقت.
نحن في المستشفى، كلفت السفارة شاباً سودانياً يتعامل معها لإحضار بعض الوثائق الإدارية، لكن عندما جاء “السفير” بإقتراحه العجيب بعدم نقل الجثمان من المستشفى حتى وصول الطائرة الخاصة، شعرت أن من كلف يريد التلاعب بموضوع الوثائق بتوجيه من “السفير” لعرقلة خروج الجثمان من المستشفى، بادرت بالإتصال مع السلطات المغربية و تجاوزنا عقبة الوثائق الادارية.
كنا في سباق مع الزمن لتحضير الجثمان حتى يوارى الثرى بعد صلاة الظهر.
تلقيت من محمد الأمين الصبيحي وزير الثقافة المغربي عن طريق مكتبه ما يفيد أن جميع الإجراءات إكتملت لتجري مراسيم الدفن بما يليق بالراحل، وقالوا أنهم خصصوا له قبراً في “مقبرة الشهداء” بالرباط، الى جانب شخصيات بارزة منهم مسؤولون كبار في الدولة المغربية ومثقفون وصحافيون وكتاب مغاربة.
اتصل بي عدد من مراسلي القنوات الفضائية من أجل نقل عملية الدفن.
في المستشفى، وقبل أن نتوجه نحو المقابر أبلغني عمر زكريا إن أفراد الجالية سيتكلفون بنفقات العزاء ووجبة العشاء التي تقدم للمعزيين كما هي التقاليد المغربية، وأشار الى أن “السفير” والمستشار سيساهمان في التبرعات لتغطية التكلفة، لم أكن في الواقع في حالة نفسية تسمح لي بمناقشة هذه التفاصيل، قلت له كل ما تقرره الجالية موافق عليه، وأبلغته أن شقيقي طارق سيسدد أي مبلغ يجري الإتفاق عليه.
لم أعد أتابع تفاصيل هذا الموضوع ، لكن طارق كان على إتصال مع عمر زكريا، خاصة أن صهره هو الذي سيتكلف بخيمة العزاء وكل ما يقدم في اليوم الأول.
أبلغت أسرة الراحل وأعضاء الجالية إنني لن أحضر العشاء، إذ لا أجد معنى أن أشارك في “وليمة” ، على الرغم من أنه تقليد مغربي، في ليلة رحيل الفيتوري.
نفسياً لم أكن مستعداً لهذا الأمر.
بعد ذلك علمت ونحن ما زلنا في المقابر أن “السفير” تجادل مع عمر زكريا حول تكلفة صيوان العزاء، وقال إنها مرتفعة، في الوقت نفسه أرسل الى الخرطوم لتنشر وسائل الإعلام ما يفيد أن السفارة هي التي تكلفت بخيمة العزاء، ولعل من الأمور التي لا يعرفها إلا قلة ، أن موقعاً موالياً للنظام رفض نشر هذه المعلومة حيث تشكك القائمون على أمر الموقع من صحة ما يقوله “السفير” .
كان الرجل يختلق.
كنت قد سمعت هذه التفاصيل بعد العزاء، وأبلغتني زوجة الراحل أن “السفير” أتصل بها ليبلغها بحجم مساهمته لتغطية تكلفة صيوان العزاء مشيراً تحديداً الى مساهمتي أنا وشقيقي طارق. وقتها تذكرت الجملة التي كتبها الكاتب:
من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل من هؤلاء الناس؟.
***
كان من المقرر أن القي كلمة رثاء قرب القبر بعد عملية الدفن. لكن بادر “السفير” في المقابر الى تناول الكلمة وراح يرص جملاً إنشائية.
هذا “السفير” لم يلتق الراحل قط ولم يعرفه ، بل زاره فقط خلال فترة كان قد فقد خلالها محمد الفيتوري ذاكرته بالكامل، ولم يعد يعرف إلا أربعة أشخاص من حوله ” زوجته وشقيقتها نزهة وإبنتها أشرقت، والداعي لكم بالخير” .
قررت ألا أتحدث في المقابر ، حتى لا يشعر من حضروا التشييع ونحن بعد حول قبر الراحل، مختلفون في أمور يفترض ألا تكون محل خلاف.
وبسبب العلاقات المهنية طلب مني الزملاء في الفضائيات الذين كانوا في المقبرة الحديث عن الراحل . قلت ما أسعفتني به العبارة.
بعد المقبرة توجهت الى حيث أسرته في منزلهم في ضاحية “سيدي العابد”.
بقيت هناك ساعات، ثم أخبرت زوجته إنني لن أحضر العشاء لأسباب مبدئية لا علاقة لها بالتقاليد.
***
كنت التقيت الفيتوري عام 2003 قبل إنتقالي الى أميركا نحو الضفة الأخرى من الأطلسي في رحلة لم تكن مقررة أو مقدرة.
كان رأيه ألا أنقطع عن المنطقة.
ودعته بحرارة ، وكان ذلك في بهو فندق هليتون بالرباط.
ضحك ضحكتها إياها وقال بتحبب ” يا ديناصور أنت الآن ذاهب لتكتشف عالماً آخر ولا أدري إذا كنا سنلتقي”.
كنت أجد متعة عندما يخاطبني وهو في حالة رائقة ” يا أمبراطور” وهو ساخراً ” يا ديناصور”. ثم انقطع التواصل إذ لم يكن يكتب رسائل ولا يستعمل البريد الالكتروني.
عندما عدت الى المغرب من اميركا، سألت كثيراً عن الفيتوري ،كانت المعلومات التي حصلت عليها، تفيد بانه مريض ويوجد في ليبيا. لم يكن سهلاً وقتها الحصول على المزيد من “جماهيرية العقيد ” لذلك كنت أنتظر زيارة ليبيا لأبحث عن الرجل وأسرته.
رحت أجري اتصالات بلا إنقطاع مع بعض من تعرفت عليهم من رجال “العهد الجديد ” في ليبيا إلى أن عثرت على خيط.
هذا الخيط هو رقم هاتف زوجته “رجات أرماز” وبيننا معرفة شخصية منذ زواجهما قبل سنوات طويلة.
أجريت إتصالاً.
ثم كانت هناك مفاجأة.
بدت زوجته سعيدة فرحة بالتواصل. قالت لي إن الفيتوري موجود في الرباط منذ عام 2005، وانه لم يغادر داره منذ ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه مريض طريح الفراش، لكنني ألححت في الحديث معه، جاءني صوته ضعيفاً متعباً منهكاً، ضحكنا على خبر وفاته وقال جملة واحدة “الشعراء لا يموتون “.
قلت له أنا قادم الآن.
أبلغتني زوجته أنه متعب وتناول الدواء للتو، وربما لن يكون مستيقظاً ، لذا من الأفضل تأجيل الزيارة حتى اليوم التالي.
اتفقنا أن ازوره في وقت ملائم، وأن يكون ذلك في السابعة مساء.
المسافة من الرباط الى ” سيدي العابد ” تستغرق قرابة نصف ساعة بالسيارة، وبما أنني لا أعرف الدار على وجه الدقة، تفضلت زوجته وجاءت الى محطة وقود لا تبعد كثيراً عن منزلهما، ورافقتني الى حيث الدار.
وجدت أن الفيتوري استيقظ للتو.
كانت زوجته قد أبلغتني إنه فقد الكثير من ذاكرته. لذلك توقعت ألا يعرفني.
كان يتحرك بصعوبة من غرفة نومه الى الصالون، تساعده شقيقة زوجته في المشي.
أصيب بشلل في الجزء الأيمن، لذلك لم يعد يستطيع أن يحرك يده، كما انه لم يكن قادراً على المشي بسبب شلل جزئي للرجل اليمني.
جلس على الكرسي وهو متعب ، بدا واضحاً أنه يغالب آلامه.
سلمت عليه. حاولت قدر المستطاع إخفاء حزني.
سألته زوجته: هل عرفته؟
أجاب بصوت متقطع : “يا امبراطور متى جئت من أميركا”.
أدركت وقتها أنني لم أختف بعد من ذاكرته. فارقتني حالة الحزن ، شعرت بشيء من السعادة.
طلبت منه ألا يتكلم، بل يسمع فقط حتى لا يجهد نفسه.
أبلغتني زوجته بعض التفاصيل.
في مايو 2005 تعرض الى جلطة داخل منزله.
كان يهم بالخروج من غرفة مكتبه وفجأة سقط أرضاً ، وكان أن نقل الى مستشفى في حي أكدال في الرباط.
أمضى أسبوعين في المستشفى، وكان قد فقد جزئياً القدرة على الحديث.
بعد 15 يوم من الجلطة الأولى أصيب بالجلطة الثانية.
ثم بعد شهرين أصيب بالجلطة الثالثة.بعدها نقل الى باريس حيث تعالج في مستشفى “سان تان” .
تحسنت صحته كثيراً الى حد أنه خرج من المستشفى راجلاً.
بعدها بأيام كان يتناول وجبة الغداء بمطعم مغربي في باريس، أثناء الأكل أصيب بالجلطة الرابعة، التي أثرت كثيراً على ذاكرته.
أعيد مرة أخرى للمستشفى .
كان من نتائج جهد الأطباء استرجاع قدرته على الكلام، ليس كلياً ولكن جزئياً ، لكن لم يكن ممكناً معالجة شلل يده اليمني، والجزء الأيمن من جسده.
بسبب الشلل الذي أصاب يده اليمنى لم يستطع الفيتوري الكتابة، وأثرت الجلطة على نظره ولم يعد قادرا على القراءة .
ظلت زوجته تقرأ له ما يرغب في قراءته. وهو يحب أن تقرأ له أشعاراً، وعندما تقرأ له بعض أشعاره يقول ” معقول ..هل كتبت انا ذلك”.
في عام 2012 انتشرت شائعة وفاته.
في تلك السنة سقط في منزله وكانت النتيجة أن حدث له كسر في الحوض.
نقل بعدها الى “كلينك أكدال” في الرباط .
كانت موارده ايامئذٍ قد جفت تماماً، وواجهتنا مشكلة تسديد فاتورة المستشفى.
اقترحت على زوجته الإتصال بالقائم بأعمال السفارة السودانية، وكان يدعى أحمد المبارك، لكن الرجل أعتذر عن فعل أي شئ بحجة أن السفير في الخرطوم، مشيراً الى أن الأمر خارج صلاحياته . بعد جهد جرى تدبير الأمر مع البنك.
في يناير من العام الحالي راحت حالته تزداد سوءًا.
كانت أعراض ذلك، معاناة من ألم شديد يجعله يصرخ ويئن الليل بطوله، ويبقى كذلك حتى الفجر.
لم تعد له شهية للأكل. ساءت ذاكرته. كان يعاني إسهالاً حاداً وحالة جفاف.
كان رأيي أن نحاول نقله الى المستشفى، بيد أن المشكلة كانت في انعدام الموارد المالية.
أجريت إتصالات مع كثيرين في أميركا وأوربا والخليج.
بادر شقيقي طارق مع بعض أصدقائه بطباعة ديوانه “شرق الشمس غرب القمر ” في القاهرة واستجاب كثيرون مع حملة شراء الديوان بسعر تشجيعي. نظمت حملة تحت شعار”نحن نحب الفيتوري” حيث جاد أكرمون بما تيسر.
كان من الذين تحركوا في جميع الإتجاهات الأخ خالد عويس. أسفرت تحركاته عن نتائج ايجابية إذ تلقينا إتصالاً من سفارة الإمارات في الرباط يقولون إن “فاعل خير” سيسدد تكلفة العلاج في أي مستشفى يعالج فيها الفيتوري.
كان رأيي دائماً إخطار السفارة السودانية، حتى لا يقال في يوم من الأيام أنها لم تكن على إطلاع على حالة الفيتوري، او لأنني كمعارض لنظام الخرطوم استثمر حالة انسانية لشاعر عظيم من اجل تصريف مواقف سياسية.
في 26 فبراير أرسلت رجات أرماز رسالة ألى “السفير”السوداني لإبلاغه بتدهور حالته الصحية. لم تتلق قط رداً على تلك الرسالة.بعد فترة زارهم “السفير” في المنزل، وأبلغتني أنه قدم لهم مبلغاً مالياً، حرص أن يقول إنه من جيبه الخاص.
دخل الفتيوري في 25 مارس “مستشفى الشيخ زايد” تلقى علاجات وكان رأيهم في المستشفى ألا ضرورة في بقائه هناك ، بل يمكن أن يعود الى منزله ويتلقى بعض العلاجات.
ثم كان أن عاد الى المستشفى بعد شهر حيث فاضت روحه وأغمض الموت عينيه بعد أربع ساعات فقط من وصوله الى قسم الطوارئ.
***
كانت علاقات محمد الفيتوري مع نظام معمر القذافي قد تباعدت ، باستثناء بعض الأشخاص.
ومنذ عام 2005 عاد الى منزله في “سيدي العابد” لا يخرج منه إلا عند الذهاب الى الطبيبة التي تتولى علاجه.
ومما زاد في حالته سوءًا ألا أحد من أصدقائه أو معارفه في ليبيا كان يسأل عنه.
وبما ان زوجته لا تعرف أحداً في السودان ، كان طبيعياً ألا يعرف أحد تفاصيل هذه السنوات.
بعد سقوط النظام في ليبيا، قررت الحكومة الجديدة سحب جواز سفره الديبلوماسي ورفضوا منحه جوازاً عادياً.
كانوا قبل ذلك قد أوقفوا راتبه.
كانت صلاحية بطاقة إقامته في المغرب قد انتهت، لكن السلطات المغربية ونظراً لوضعه الصحي المتردي تغاضت عن الأمر. تدخلت وقتها بعد أن عرفت بهذه الإشكالية عقب عودتي من أميركا ، لدى وزير الداخلية المغربي. وتمت معالجة الموضوع.
في مايو 2012 سمعت “وزير الثقافة” السوداني يقول على الهواء في برنامج إذاعي حول الشاعر الفيتوري بث من الإذاعة السودانية ، إنه كتب شخصياً رسالة بخط يده وسلمها إلى “رئيس الجمهورية” يطلب فيها إصدار جواز للشاعر الفيتوري، والتكفل بعلاجه ، وتقديم دعم مالي له.
ثم زار الفيتوري في “ضاحية سيدي العابد”، من سيبلغ زوجته بان دعوة ستوجه لهم لزيارة السودان والإحتفاء به في الخرطوم.
سمعت بعد ذلك أن قراراً أتخذ لإصدار جواز للشاعر الفيتوري. وزاره أيضاً من أخذ بصماته من أجل الجواز الموعود، لكن لم يحدث أي شيء.ذلك الجواز لم يصل قط.
تحرك السفير جمال إبراهيم،، وظل فخر الدين كرار ينقل لي أول بأول نتائج تلك الجهود، التي اثمرت عن اصدار جواز سفر ديبلوماسي سوداني للشاعر الفيتوري.
قبل ذلك وبعد انتشار خبر وفاته في عام 2012، أبلغتني زوجته أن السفير السوداني في الرباط زارهم ووعد بحل مشكلة الجواز. كان ذلك أول اتصال رسمي بشأن هذا الموضوع، اذ لم يسبقه اي اتصال من قبل .
أذكر في هذا الصدد أنه خلال لقاء مع عبدالباسط سبدرات في الخرطوم في أغسطس من العام الماضي زعم في وجود آخرين، أن علي عثمان محمد طه عندما كان نائباً للرئيس قرر تخصيص مساعدة مالية للفيتوري.
قلت له ما تقوله هراء وكذب. وإذا كان على عثمان محمد طه يقول ذلك فإنه يختلق ليس إلا.
****
ولد محمد الفيتوري في مدينة الجنينة ، في 24 نوفمبر عام 1936، وهو التاريخ المسجل في أوراقه الرسمية.
بعدها نزحت أسرته الى الأسكندرية ، ثم درس في القاهرة قبل أن ينتقل الى الخرطوم في الستينيات، ثم غادر الخرطوم في آواخر الستينيات الى بيروت وبعدها راح يتنقل هنا وهناك حتى إستقر بالعاصمة المغربية الرباط في عام 1984 .
سمعت منه يصف هذه الحالة في حوار أجريت معه عام 1985 قائلاً “حينما أطل الى الوراء وأتأمل مسيرة حياتي، أجد نفسي مثل عصفور غريب، يتنقل من غصن الى غصن، من مسافة الى مسافة، ولا يعرف أين هو بالضبط، عصفور يبقى فوق أحد الأغصان لساعات، لأيام، لأسابيع، ثم يطير…أنا ذلك العصفور غير المستقر”.
لم يكن يذكر الكثير عن والده أو والدته “عزيزة” . قال لي مرة عن والده ” “أنا قلق.. وربما أظل كذلك، وأعتقد ان نبؤة لوالدي أثرت في كثيراً، مرة قال لي والدي إنك ستقضي حياتك غريباً عن وطنك”.
كانت له شقيقة لكن لم يكن يتحدث عنها كثيراً.
الشخص الذي أثر في شخصية محمد الفيتوري هي جدته “زهرة” وهي والدة أمه، يقول عنها إنها كانت “جارية” أهديت الى جده من أمه وتزوج بها وكانت والدة الفتيوري.
هذه التراجيديا في حياة الجدة هي التي شكلت البعد الأفريقي في شخصية الفيتوري.ولعل تلك الجدة هي التي أوحت له بالإنتماء الى القارة . كان مشدوداً كثيراً لقصتها، وكثيراً ما سمعته يتحدث عن هذه الجدة .
***
السودانيون لا يقرؤون محمد الفيتوري ويتذوقونه شعره فحسب، لكنهم يرددون دوماً أشعاره.
إنه شاعرهم الذي يحبونه.
ما أجمل كلمة” حب” آه منها، هي ذي الكلمة الفاتنة القاتلة.
عشقوه وهو يقول:
شحبت روحي، صارت شفقاً
شعت غيما وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه أنا
أتمرغ في شجني
أتوهج في بدني
أحبوه وهو يغني وتغنوا معه:
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت برآياتي
وطبولي الآفاق
عشقي يفنى عشقي
وفنائي استغراق
مملوكك…. لكنـي
سلطان العشاق
كتب محمد الفيتوري 28 مجموعة شعرية .
كتب عن قضايا حيوية ومهمة لحياة الإنسان المعاصر، مشاكله ومعاناته.كتب عن الإنسان الأسود وظروفه المأساوية، كتب عن القضية العربية وتفاعلاتها في مختلف الساحات.
محمد الفيتوري هو إبن الإيحاءات والرموز، والعالم المثيلوجي المليء بالإضاءات والألوان.
هي الوان ممتزجة، سوداء وبيضاء،افريقية وعربية.هذا هو البهو الرائع الذي تحرك خلاله.
أمتص بخلايا جسده، وعيونه وحواسه، وحاول البحث عن ذاته.
عندما كتب دواوينه الأربعة الاولى “أغاني افريقيا” و”عاشق من افريقيا” و”أذكريني يا افريقيا” و”أحزان افريقيا”. كان يبحث عن هذه الذات، بل كان يقف في مكان منعزل بالنسبة لمجموعة الشعراء المعاصرين.
حين كان الشعراء ينزفون منطوين على جراحاتهم الصغيرة، كان يصيح شعراً ” استيقظي يا افريقيا”.
سخر منه كثيرون. يقول في هذا الصدد” كنت أهتف يا أفريقيا انا زنجي، وكنت اتعمد ذلك لانني كنت انادي عمقاً نفسياً لا يمكن أن يدركوه”.
كان آخر دواوينه له ” بعنوان” عُرياناً ..يرقص في الشمس”.
نقرأ في قصيدة اختار لها عنواناً يقول “تحديق في صورة قديمة” :
ابتسم للحضور ابتسم للغياب
ابتسم للبكاء ابتسم للعذاب
ابتسم للجنون ابتسم للخراب
ابتسم للغزاة وهم يُقبلون
للعبيد الطّغاة وهم يزحفون
للطّغاة العبيد وهم يبطشون
****
كان محمد الفيتوري يطلب مني ونحن نجلس في مقهى “باليما” بالرباط أو في مقهى الوداية الذي يطل على الأطلسي أن أتذكر كلمة، في بعض الاحيان.لكن إقول الآن أنني أول من سمع منه قصيدة “عرس السودان”.
سعيداً أقولها .
ذلك المساء أتصل من هاتف منزله، إقترح أن نتناول وجبة العشاء سوياً في شقته في حي (حسان) .
كان الفيتوري يلقي أشعاره بكل حواسه .
قال لي كتبت قصيدة حول هذا الذي يحدث في السودان (ارهاصات الإنتفاضة) سأرسلها الى الفنان محمد وردي وإريدك أن تسمعها.ثم راح يقول :
في زمن الغربة والإرتحال
تأخذني منك وتعدو الظلال وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان
إلا النسور الجبال يا شرفة التاريخ
يا راية منسوجة
من شموخ وكبرياء الرجال
على إثر بيننا بشأن دور المرأة السودانية، بادر إلى تعديل هذا الشطر ليصبح : “من شموخ النساء وكبرياء الرجال”.
***
لمن تُرى أعزف أغنيّتي
ساعة لا مقياس إلاّ الكمال
إن لم تكن أنت الجمال
الذي يملأ كأسي فيفيض الجمال
***
فداً لعينيك الدماء
التي خطّت على الأرض
سطور النضال
داست على جلاّدها
وهي في سجونه
واستشهدت في جلال
***
فداً لعيني طفلة
غازلت دموعها
حديقةً في الخيال
شمسك في راحتها
خصلة طريّة
من زهر البرتقال
والنيل ثوبٌ أخضرٌ
ربّما عاكسه الخصر
قليلاً فمال
(عندما سمعت هذا المقطع، قلت له هذا كلام يزلزل الكيان)
ثم استطرد:
كان اسمها أم درمان
كان اسمها الثورة
كان العرس عرس الشمال
كان جنوبيّاً هواها
وكانت ساعة النصر
إكتمال الهلال
فداً لك العمر
ولولا الأسى
لقلت تفديك
الليالي الطوال
فداً لك العمر
عندما سمعت القصيدة مكتملة، لم أقل شيئاً.
وجمت.
***
كتب محمد الفيتوري شعراً جميلاً .
كتب لأنه يعرف كيف يكتب.
قال لي محمد الفيتوري مرة عن الكتابة وكان ذلك قبل 30 سنة “أكتب لأطهر ذاتي،لأقوم بعملية تطهير ذاتي من عقدي ورواسبي، لأقوم بعملية صهر لعلاقاتي النفسية والعاطفية. أكتب للإنسان الذي أعيش معه واشاركه هذه الحياة. أكتب لمزج الإنفعالات والخواطر في حلم شعري، في إيقاعات، في صورة، في رؤيا. أكتب لأنني أقول كلمة للآخرين، واسعى لتسجيلها لعلهم يقرؤونها. أنا أكتب للقادمين”.
***
كان هناك مشروع مع محمد الفيتوري لكتابة كتاب حول المحطات الرئيسية في رحلته.
اتفقنا أن يكون ذلك من خلال التوقف عند خمس مدن شكلت محطات فاصلة في حياته.
الاسكندرية، حيث مراتع الصبا. القاهرة وهي نقطة الإنطلاق في عالم الشعر الفسيح.الخرطوم في ستينيات القرن الماضي. بيروت في الثمانينيات. الرباط التي جاء اليها في منتصف الثمانينيات.
كانت هذه هي المدن في حياته. عندما قلت له ماذا عن “طرابلس”. أجاب محتداً عندما يكون غاضباً ” أرجوك لا أرغب في تقزيم نفسي”.
***
سيفتقد الناس في محمد الفيتوري الشاعر والمبدع والكاتب والإعلامي .
بيد أنني أفتقدت الفيتوري، الإنسان والصديق العزيز.
عندما صدر ديوانه ” شرق الشمس غرب القمر” في يوليو عام 1987 أهداني نسخة كتب عليها بخط يده “إلى أخي الأستاذ طلحة جدبريل تجسيداً لهذا الذي بيننا من علائق في الصداقة والفكر والمواطنة”.
هي بالفعل “الصداقة والفكر والمواطنة”.
كان محمد الفيتوري في حياته طائراً مغرداً ، أقرب ما يكون الى طائر “الكروان” شبه المنقرض ، يطرب الناس بأشعاره.
بعد رحيله ستبقى كلماته تصنع المتعة والوعي، معبرة عن وجدان الناس .
شاءت الصدف أن تطلب مني زوجته رجات ، كتابة كلمات تكتب على شاهد قبره.
قالت لي بنبرة حزينة صادقة ” لو كان بيينا لطلبها منك شخصياً”.
ثم أشارت الى عبارته التي يقول فيها”لاتحفروا لي قبراً”.
التقطت الفكرة، وكتبت ما كتب على شاهد القبر.
منحتني زوجته هذا الشرف العظيم.
كتبت التالي:
محمد الفيتوري شاعر افريقيا.
ولد محمد رجب مفتاح الفيتوري بمدينة الجنينة في السودان
في 24- 11- 1936
وتوفي بالرباط
في 24-4-2015
***
لا تحفروا لي قبراً
سارقد في كل شبر من الارض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبراً
وأنا من؟
سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيفوا بطلاً
قلت: قلبي على وطني
***
كان الفيتوري في حياته أكبر من الحياة.. وسيبقى الفيتوري بعد رحيله أكبر من الموت.