في ذكرى ١٦ مايو ومرور ٣٩ عام لقاء صحفي مع د. جون قرنق حول انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١م

اجندة الهامش الجغرافي والسياسي (١ من ٢)

0 76

كتب: ياسر عرمان

.

مناسبة:

كنت اعبر مثل كل العابرين في بهو فندق (سلام روتانا) في ١٣ مايو الجاري، رأيت حشدا من السودانيين الجنوبيين، فارعي الطول، سمحي المحيا، يشبهون النيل واديم الارض، ولطالما ادخل وجود الجنوبيين في الشمال البهجة الي نفسي مثلما هو وجود الشماليين في الجنوب، ووجودهم معا يطرب ذاكرة المستقبل، ويؤسس لمشروع جديد لا انفصام فيه لروابط التاريخ والارض والنيل، والمستقبل للاتحاد السوداني بين دولتين ذوي سيادة مهما طال المسير. وكل شيء محتمل حتى العودة الي سنار وطيبة القديمة، وعتبات البركل المقدس، فكل شي يبدأ وينتهي عند ذاكرة التاريخ، وعلينا ان نواصل الكتابة ضد الذاكرة المثقوبة.

في البهو التقيت باحد قدامى الرفاق. تحية وسلام حار كطقسنا هذه الايام، ثم عرج بي الي الحديث عن ذكرى ١٦ مايو ٨٣، باغتني بالسوال، كيف كان سيكون موقف قرنق من انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١، واتفاق سلام جوبا وثورة ديسمبر ، وبعد صمت دخلنا في حوار طويل حول قرنق واجندة الهامش وما الموقف الذي كان سيتخذه الدكتور جون قرنق؟ وقررت عرض الاجابة كلقاء صحفي مع قرنق. الذي هو حاضر رغم تداعي الاحداث ومرور السنوات، وحتى لا تمر ٣٩ عاما دون تذكر قرنق، ذلك الانسان الفريد، واكبر زعيم سوداني معاصر جمع بين افئدة ابناء الهامش والمركز واجتمع على حبه غالب اهل السودان.

خلفية ومشهد من مدينة بور:

١٦ مايو ١٩٨٣، كانت مدينة بور على وشك الانفجار. وكان جون قرنق في المدينة، بعد ان عاد اليها من الخرطوم مع اسرته، وكان على عجلة من امره واخذ اذن من قيادة الجيش للذهاب الي جوبا من ثم الي بور ، لحل الخلاف الناشيء بين كاربينو كوانجن بول، احد الضباط المستوعبين من حركة الانانيا، وقيادة الجيش في مدينة بور .
جون قرنق هو رائد التأهيل النظري والعملي في قضايا رؤية السودان الجديد ومفكرها الاول واحد ابطال الدعوة للسودانوية في سياقها الجديد عند بدايات الثمانينات، وراسم احدى اهم محطاتها المتجذرة التي شربت من ضوء تهراقا وأفق الامام المهدي البعيد، واخذت من الزعيم علي عبداللطيف انطلاقاتها الحديثة، فجدران السودانوية تستند على اسوار نبتة والمغرة وعلوة وحتى دماء ساحة الاعتصام، لا تفرق بل تجمع، والسودانوية فكرة وبذرة من التاريخ والحاضر ومحطات قديمة وجديدة واجيال من اليوم تصعد من مدرجات تاريخ الامس.
في ١٦ مايو ١٩٨٣، كانت السودانوية على موعد مع مدينة بور، وستخرج حركات الهامش جميعها من معطف قرنق، رغم الخدوش التي اصابت هذا المعطف .

اجندة الهامش الثورية لا تنمو بعيدا عن الجماهير، ورؤية السودان الجديد يمكن تحقيقها على نحو اكثر فاعلية، وفي محيط ديموقراطي عريض عبر ثورة سلمية، ومع الديسمبريين والديسمبريات، فكرة السودان الجديد ليست سرجا لتوزيع السلطة والثروة. بل هي رؤية لاحداث تغيير عميق في بنية السلطة واعادة هيكلتها وانتاج وتوزيع الثروة وديموقراطية الثقافة. كل ذلك كان مطروحا في نهار مدينة بور الذي كان على وشك الانفجار.

لقاء صحفي مع قرنق حول انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١:

كان لابد لنا من الحوار مع دكتور جون قرنق دي مابيور حول مشهد معقد ومركب. ولطالما درج د. جون قرنق على اعطاء اجابات صحيحة حوله. رغم ان د. جون قد غاب سنوات طويلة واعتزل اللقاءات الصحفية والتليفزيونية والندوات.

“والشمس تميل على كتف النيل تدي الشبال – محجوب شريف”

كان قرنق حاضرا في جمهورية اعالي النفق، وقد ابتلع الجمهور الساحة على اتساعها امام القيادة العامة، واذ قدر لك الافتراق عن من هو بجوارك فبحثك عنه كمن يبحث عن ابرة في كومة من قش.

جون قرنق - ياسر عرمان

وضع الجمهور خلفية على مسرح استقبال قرنق، بخط يفضح كل اخطاء الماضي والتمييز في المواطنة، كانت اللافتة التي يقوم على حراستها الاف الشباب تقول (الشعب يريد بناء سودان جديد).

جون قرنق كعادته القديمة، تبادل قفشات النكات مع جماعات الشباب، لم يفرق بينهم على اساس جغرافي او ديني او ثقافي او النوع. وكان يرى بعيني الطبقة ومسألة القوميات. ذكر الشباب في بداية الحديث ، ان السودان، كل ارجائه لنا وطن، وان ساحة الاعتصام على صلة بالساحة الخضراء او ساحة الحرية كما اطلق عليها بعد ديسمبر. وانه التقى ببعض الحاضرين من قبل في ساحة الحرية حينما حضر اليها يوم الجمعة ٧ يوليو ٢٠٠٥، ونبههم الي مقاطعة الدعوة للقبلية والا يهربوا نحو بضاعة مغشوشة وزعزعة اوتاد ما يوحد، عند الباحثين عن الذهب.

(١)
في ١٦ مايو ١٩٨٣، ضغط كاربينو على الزناد لتعقيدات متعددة، واجهته وواجهت الجنوب، ولأن جعفر نميري ضرب باتفاقية اديس ابابا عرض الحائط، ولكن دوافعه المباشرة لا تخلو من قضايا شخصية مع قيادة الجيش دفعته لتحريض قوات الانانيا التي رفضت الدمج والترحيل الي خارج الجنوب وفق اتفاق اديس ابابا. كانت لتلك القوات هواجس عميقة مرتبطة بالتاريخ، والجغرافيا، وتضارب المصالح، وعمل كاربينو على الخلط بين الاسباب الشخصية والموضوعية، مخالفا بذلك توجيهات التنظيم السري للانانيا ، الذي كان تحت قيادة اللواء البينو اكول اكول وضم وليام نيون وسلفاكير ميارديت واروك طون اروك واخرين وكان جون قرنق احد قادته الفاعلين وجاء خصيصا لبور لاقناع كاربينو بان التنظيم ينوي القيام بانتفاضة مسلحة متزامنة في كل مدن الجنوب ومناطق تواجد قواته، طالبا منه الانتظار حتى ساعة الصفر والا يتصرف قبل الاوان ولكن قرنق هو من حضر بعد فوات الاوان، فقد اعطى كاربينو التعليمات التي فجرت حربا طويلة ستستمر على مدى ما يزيد من عقدين من الزمان.

طلقة كاربينو لم تكن لتؤدي الغرض على اهميتها، لولا رؤية قرنق الجديدة التي احدثت تحول جذري في مسرح الفكر والسياسة في السودان، فدعوة قرنق لوحدة السودان واقامة سودان جديد كانت حدثا فريدا لم يتوقع احد ان تتم الدعوة له من جنوب السودان. وهنا تكمن عظمة قرنق وعلو كعبه.

قاد قرنق عربة (الرانج روفر) وشق ريف مدينة بور مع اسرته وبعض معارفه من الثقات، متوجها نحو الحدود الاثيوبية، التي تتواجد بها قوات الانانيا الثانية وكان هنالك حبل سري بينهم وبين تلك القوات.

قبل خروجه طلب قرنق من مولانا ابيل الير الذي كان متواجدا في مدينة بور في ١٦ مايو ١٩٨٣ بان يذهب معه الي الغابة لبداية تمرد جديد، ولكن مولانا ابيل الير الموزون بميزان الذهب، والذي يؤمن بالعمل السلمي وبقضية جنوب السودان اعتذر وعاد الي الخرطوم ومكث فيها طوالي سنوات الحرب، وأيد مطالب الجنوبيين وسعى نحو السلام العادل وهو يستحق ان يلقب بمواطن الخرطوم الاول، وان يقام له تكريم فله التحية والسلام سيما ان المصانع التي انتجته قد اغلقت ابوابها.

في الخرطوم وبعد تمرد بور مباشرة وفي السفارة الاثيوبية، التقى اروك طون اروك، وادوارد لينو ابيي والسيد اسماعيل حسن المسئول بالسفارة الاثيوبية وقد طلبوا منه ان يبلغ الرئيس منقستو هايلي مريام، بان يبعث بطائرة الي الحدود الاثيوبية لتقل الدكتور جون قرنق واسرته ومرافقيه الي داخل اثيوبيا، وقد فعل، ولعله من المفيد ان توات احد القادة الاثيوبيين المنحدرين من النوير وحاكم بومبيلا السابق قد اتى في تلك الطائرة. كانت تلك البداية التي مضى عليها ٣٩ عاما. ولا تزال اثارها عميقة في مجريات ما جرى ويجري في السودان.

(٢) مضابط اللقاء الصحفي

د. جون قرنق دي مابيور، يطيب لنا ان نلتقيك في (صحيفة الديسمبريين). ونستطلع وجهة نظرك حول مجريات احداث استراتيجية يمر بها السودان، بعد مرور ٣٩ عام من احداث مدينة بور، وتأسيس الحركة الشعبيةوقيام دولتين سودانيتين والتحولات العميقة داخليا وحارجيا.ولكننا نريد منك ان تسلط بؤرة الضوء على ثورة ديسمبر وانقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١، واتفاق السلام. فكيف تقيم الوضع الحالي؟

جون قرنق: سيكون حديثي مختصرا واسمح لي اولا ان اتوجه بالتحية للشعوب السودانية في دولتي السودان و بالتحية للديسمبريات والديسمبريين وزملائي من الشهداء واشكرهم على التغيير الهائل الذي احدثوه في الواقع المحلي والاقليمي بل الدولي فثورة ديسمبر وشعاع النور الذي انبثق عنها ترك اثره حول العالم اجمع.
وقد بدى لي أكثر من أي وقت مضى إمكانية بناء السودان الجديد، بدخول الملايين من الشباب والنساء في العملية السياسية في الريف والمدن ورغم هشاشة المجتمع و مؤسسات الدولة، فان ما هو غائب في هذا الظرف المعقدة هو وحدة قوى الثورة. فالسودان كله يحتاج الي تجديد وفي مقدمة ذلك، تجديد الفكر والمؤسسات ووحدة قوى الثورة والنظر للتغيير كعملية شاملة في ترابطها التكتيكي والاستراتيجي.

واسمح لي بالتأكيد على الاتي:

اولا: ثورة ديسمبر لم تولد من سماء زرقاء، بل هي نتاج لنضالات الأمس واليوم واجيال اليوم تستند على اكتاف اجيال الامس وهي تصعد نحو مراقي جديدة.

ثانيا: ان السودان يحتاج الى حركة ثورية تربط بين المدينة والريف وان الهامش ليس جغرافيا فحسب، بل سياسي في المقام الاول ويضم النساء والفقراء من كافة القوميات وهو عابر للاديان والجغرافيا. والهامش ليس كتلة صماء وكذلك المركز، فكم من مهمش ساند المركز وكم من مناضل في المركز وقف ضد التهميش، اننا لا نريد تبديل الضحايا بضحايا انما نريد بناء سودان جديد يسع الجميع

ثالثا: حركات الهامش يجب ان تنتقل من مرحلة الاحتجاج الي البحث عن مشروع ثوري متكامل.

رابعا: ادرك الخيارات الصعبة التي هي امام قوى الكفاح المسلح التي الموقعة على اتفاق جوبا، واذا اردنا المضي الي الامام يجب الا نصغ خياراتنا بين الرجوع الي الحرب او الوقوف الي جانب الثورة، فيمكن الوقوف الي جانب الثورة دون الرجوع الي الحرب، بل ان هزيمة الثورة ستودي الي استئناف الحرب فالثورة سد منيع ضد الحرب.

خامسا: عدم الرجوع الي الحرب يتطلب موقف سياسي ثاقب وسديد من حركات الكفاح المسلح لأنه دون انهاء الجذور التي تسبب الحرب فان الحرب …
نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.