سكة ضياع جدل الواقع والفن

0 181
كتب: فايز السليك
.
حرصت على متابعة غالبية حلقات المسلسل السوداني سكة ضياع عبر اليوتيوب، محبةً في الدراما وسعادةً بالانتاج السوداني.
اقتنص كاتب القصة والسيناريو هيثم الأمين، فكرة المسلسل من الواقع المعاش، وقدم ابطالاً عاديين من الشارع بتناول قضية ابناء الشوارع والأطفال فاقدي السند الذين يكونون ضحايا لظروف ليس لهم فيها ذنب، فابناء الشوارع هم ضحايا الوصمة الاجتماعية في مجتمع تسوره التابوهات في قضايا الجنس والغرام والهوية، والتناقض الذي يعكس حالة ( نفاقية) تمثلت في عوض كرنديس، الذي يتخلص من ابنه عبد الله ( العبادي ) لانه نتيجة علاقة خارج المؤسسة الزوجية؛ إلا ان عوض الذي يرفض الاعتراف بابنه خوفاً من المجتمع لا يتورع عن ارتكاب جريمة الاتجار في المخدرات التي تحقق له مكاسب مادية تضعه فوق قمة المجتمع ذاته!
اراد الكاتب القول بأن الضحايا من أبناء الشوارع هم المجرمون أنفسهم؛ هم الذين يروعون الناس في الشوارع، يختطفون الهواتف الجوالة والحقائب، يقتحمون المحال التجارية، هم ( تسعة طويلة) وهم مروجو المخدرات. من وجهة نظري اخطأ الكاتب في الفكرة بالتعميم والخلاصة بأن كل ابناء الشوارع مجرمون، وأن كل جرائم الاختطاف والقتل يرتكبها أبناء الشوارع وحدهم.
يحتاج الكاتب الى الغوص أعمق في تقديم وتحليل الظاهرة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً دون اهمال العوامل السياسية لا سيما؛ وأن معلومات ومؤشرات تؤكد تورط السلطة في رعب تسعة طويلة، وأن مسؤولين رفيعين في مؤسسات الدولة من المنظومة السابقة تورطوا في جرائم الاتجار في المخدرات وفي ترويجها.
يحمد للكاتب جرأته في تقديم نص جرئ الا أن ضعفا في كتابة السيناريو لا يخف على عين المراقب الحصيف لدرجة الظن ( وقد لا تكون استنتاجاتي دقيقة) أن هيثم، اعتمد على فكرة كتبها معممةً، ثم طرحها على فريق الممثلين والممثلات دون أن يضع كل تفاصيل تسلسل وتصاعد الاحداث ورسم الشخصيات داخلياً وخارجياً داخل سطور وتقسيمات النص الورقي، وبالتالي لجأ الفريق الى الارتجال حسبما يقتضي الظرف، ، وتبدى ذلك في وجود ترهل في بعض المشاهد، و في ضعف الحوار بين ابطال المسلسل، والميل الى التكرار الممل التي تتحول أحياناً الى ( ونسة عادية ) وثرثرة تخرج عن المعايير الفنية، ويمكن الاشارة اكثر الى الحوارات بين العبادي ورشا، وجوان ووالدها، كما اشير الى مشهد مشاركة المطرب كمال ترباس، بصورة توحي الى اقحام المشهد جزافاً على النص، وتتبدى الثرثرة كذلك في بعض حوارات تونة وصديقتها، وفي لجوء ( ابو الدبش) الى الارتجال أحياناً، ويصل ذلك درجة أنه اذا ما تم حذف قليل من تلك الثرثرة المكرورة والونسة العادية لأصبح المسلسل اكثر تشويقاً؛ هنا يكمن الفرق ما بين الحوار العادي الواقعي، وما بين الحوار الدرامي، فالدراما لا تحاكي الواقع وتتطابق معه تطابق التصوير بكاميرا فوتغرافية، إن الدراما تصور الأحداث والشخوص عبر رؤية بصرية مفارقة للواقع ( فنياً).
إن مهمة الحوار داخل بنية النص الدرامي تتمثل في كيفية نقل الحروف المكتوبة الى كلمات مسموعة، وتعابير جسدية مرئية، وتتمثل في التعبير عن المشاعر، تصوير الحالة النفسية، تحديد نوع العلاقات بين المتحاورين، تصعيد وتيرة الاحداث، تسريع ورفع زمن الإيقاع لخلق الاثارة والتشويق وتحفيز المشاهد على المتابعة واثارة فضوله للآتي في فضاءات النص الدرامي، هنا ياتي دور المخرج، وتتضح قدراته على تحويل النص الورقي الى صورة بصرية نابضة بالحياة، ومجسدة في شخصيات حية، و تنعكس من خلال أحداثٍ مستمرة.
يستخدم المخرج في تصوير رؤيته البصرية على أداء الممثلين والممثلات، حركة الكاميرا، تنويع اللقطات وزوايا التصوير، تنوع المشاهد، سلاسة الانتقال، أماكن التصوير الخارجي والداخلي، أوقات التصوير، الاضاءة، الصوت، الديكور، المكياج، الاكسسوارات والموسيقى التصويرية. لازم العمل هنات وعيوب اتضحت أكثى في ضعف الاضاءة، رداءة الصوت في عدة مشاهد، و كذلك الافتقار إلى الأداء الحركي لطاقم التمثيل، والتغطية على ذلك ببعض من الثرثرة وكثرة المشاهد الداخلية والجلوس فوق المقاعد.
لابد من الإشادة بأداء كثير من نجوم العمل، وابرزهم أحمد الجقر، الذي يمتلك طاقة فنية كبيرة تمثلت في تقمصه الوجداني و تشخيصه الجيد لشخصية البطل العبادي، وقدرته على الانتقال من شخصية مجرمة عدوانية وعنيفة الى شخصية لطيفة وديعة ورومانسية، وان كان ثمة عيب فهو في عدم تطابق الشكل الخارجي لمظهر ممثل تبدو عليه الدعة والوسامة مقارنةً مع شخصية مشردة في سكة ضياع!.
كذلك قدم النص نجوماً خفاف الظل مثل عثمان اوسو ( كبويتا ) الذي استطاع كشف صفات لا يمكن رؤيتها في اشخاص مجرمين مثل الشهامة حينما يتطلب الأمر، وخفة الدم، ورفد العمل بافيهات محببة حفظها كثيرون، وكذلك هاني كابوس ( ابو الدبش) و الممثلة الرائعة مفاز بشرى، في شخصية تونة، رؤى محمد نعيم سعد في شخصية ( دوكو).
بلاشك إن مسلسل #سكة_ضياع.يمثل خطوة جيدة للدراما السودانية للتجريب والجرأة وكسر حواجز الخوف والتابوهات، على رغم ما اشرت اليه من عيوب من الواضح أنها كانت نتيجة طبيعية لضعف الانتاج وقلة الامكانات المالية، وضعف التحضير الطويل للعمل من بروفات وتجهيز المعدات والأماكن؛ الا ان هذه العيوب لا تقلل من اهمية العمل وسياقه الموضوعي، ونأمل ان يكون المسلسل فرصةً لانطلاق الدراما التلفزيونية نحو التجويد في المستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.