رحلة «الشيوعي» إلى كاودا.. تعقيد جديد وخطير للمشهد السوداني
كتب: د. عبد الرحمن الغالي
.
(1)
انشغل الناس بخطأ الحزب الشيوعي الاجرائي في تنظيم رحلته لكاودا، وهو انطلاقه من جنوب السودان لكاودا ثم العودة للجنوب دون اخطار حكومة جنوب السودان، وتداعيات ذلك الخطأ حيث انتشرت أنباء عن اعتقال أعضاء الوفد اتضح لاحقاً عدم صحتها وأن الأمر كله لا يعدو كونه تحقيقاً يشير لعدم رضا حكومة الجنوب عن ( أو حرجها من) ذلك التجاوز كما تريد أيضاً أن تحتوي تداعيات وآثار ذلك على علاقاتها مع حكومة السودان
(2)
لكن المؤتمر الصحافي لأعضاء الوفد الثلاثي يقول الكثير رغم تحفظ المتحدثين، ويرسل رسائل غاية في الخطورة والسلبية لاسيما إذا قُرن ذلك بالوضع السياسي القائم القاتم. ما قيل في هذا المؤتمر يستحق الاهتمام من قوى الثورة: السياسية والمدنية والجماهيرية والتعامل معه بجدية تبطل تلك السلبيات عبر الحوارمع أطراف تلك الاجتماعات ( حركتي الحلو وعبد الواحد والشيوعي) وعبر وسائل أخرى وكذلك مع كل الفاعلين قبل أن تستفحل تلك السلبيات وتزيد المشهد تعقيداً على تعقيده.
(3)
أول تلك السلبيات هي سعي الحزب لتكوين مركز معارضة جديد في جهد يزيد من انقسام قوى الثورة ومقاومة الانقلاب ويصب هديةً باردةً في ماعون الانقلابيين. ورغم اصرار الحزب وأعضاء وفده على تسمية مجهودهم ذاك (بالسعي لخلق مركز موحد) إلا أنه في حقيقته سعي في تكوين ( مركز جديد آخر). فكيف تجوز تلك التسمية وهي تستبعد جزءاً من لجان المقاومة وتستصحب جزءاً منها وتستبعد قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي وتستبعد جزءاً من تجمع المهنيين ومن المجتمع المدني ويقتصر ذلك المركز ( الموحد) على الحزب الشيوعي والحركتين ( إذا وافقتا على الانضمام إليه) وبعض لجان المقاومة وبعض تجمع المهنيين وبعض أجزاء المجتمع المدني.
الخلاصة: زيارة كاودا خطوة في ترسيخ انقسام المعارضة.
(3)
ثاني السلبيات: قبول تقرير المصير:
• أقرت الأستاذة آمال الزين في المؤتمر الصحافي باتفاقهم مع حركة عبد العزيز الحلو على حق تقرير المصير مع إعطاء أولوية للوحدة الطوعية. ولم يكتف الوفد بقبول حق تقرير المصير وإنما وقع في ثلاثة أخطاء تجعل من الانفصال هو الخيار الأرجح والأسوأ:
الخطأ الأول:ربط الحزبان الوحدة بشروط كثيرة منها شرط فصل الدين عن الدولة وهذا خطأ مزدوج ، أولاً لأن قضية الدين والدولة لا تقرر في الفترة الانتقالية ولا يقررها حزبان وإنما يقررها الشعب السوداني وقواه في مؤتمر قومي دستوري. وثاني الأخطاء أن هذا الموضوع ليس له ارتباط عضوي بقضية الوحدة والانفصال حيث يمكن ربط الوحدة والانفصال بشروط تحقيق المشاركة العادلة في السلطة والثروة والتنمية المتوازنة والتمييز الايجابي للمناطق الأقل نمواً واحترام التنوع الديني والاثني واحترام حقوق الانسان وإقامة الحقوق والواجبات على المواطنة. هذه القضايا والاختلالات ظلت موجودة على طوال تاريخ السودان على تعاقب الحكومات ( مع اختلاف درجاتها) بل لقد زادت في كل الحكومات العسكرية ولم تمنع العلمانية في عهود نميري وعبود تزايد المظالم وانفجار الحروب وان أضافت تجربة الانقاذ ودولتها الدينية بعداً جديداً للحرب أجج الفتنة الدينية ومزق النسيج الاجتماعي ولكن كل الشعب السوداني تقريباً وقواه الحية قد رفضت تلك التجربة وأطاحت بها في ثورة ديسمبر المجيدة. فقضايا التهميش الثقافي والاقتصادي والسياسي ترتبط بغياب الديمقراطية والحكم المدني في مقابل الحكم العسكري الاستبدادي أكثر من ارتباطها بقضية الدين والدولة. والملاحظ أن حركات التمرد تنفجر في العهود العسكرية كلها ( علمانية ودينية) مثل أنيانيا الأولى 1963 (عبود) أنيانيا الثانية 1975 ( نميري) الحركة الشعبية 1983 (نميري) التصعيد في حرب الجنوب (1992) وحرب دارفور 2003 ( الانقاذ). وحتى ارتباطها بقضية الدين والدولة يمكن حلها بما وصلت إليه التجربة السياسية السودانية وهي إقامة دولة مدنية تكون المواطنة فيها هي أساس الحقوق والواجبات فلا يحرم إنسان بسبب دينه أو عرقه أو نوعه أو طبقته من أي حق من حقوقه. المطلوب هو اعتبار المواطنة هي المعيار الوحيد للحقوق والواجبات وأن تتم إزالة كافة أشكال المظالم التنموية والاقتصادية والسياسية واحترام التنوع بكافة أشكاله واحترام حقوق الانسان وتمييز المجتمعات والطبقات والفئات الاجتماعية الضعيفة تمييزاً ايجابياً.
وثالث أخطاء مفهوم تقرير المصير كما ذكره المتحدثون هو اعتبار أن ذلك الحق لقوميات معينة وليس للمنطقة فعندهم أن حق تقرير المصير يقوم على أساس إثني وليس جغرافياً وهذا يفتح باب فتنة وحرب أهلية محلية إذا تم تقرير المصير وتقسيم السودان بهذا التعريف. فكيف يكون الحق لإثنيات معينة وليس لأهل المنطقة وما هو مصير القبائل والاثنيات الأخرى الساكنة في نفس الاقليم هذا فضلاً عن استحالة تطبيقه جغرافياً في جبال النوبة مثلاً إلا إذا أرادوا أن يخلقوا كانتونات مثل اتفاق غزة أريحا حيث يسكن العرب في السهول والنوبة في الجبال . هذا الفهم الضيق العنصري يفتح أبواباً لفتن في الأقاليم المعنية إذ ليس في أيٍ من المناطق التي تدعي تلك الحركات تمثيلها نقاء عنصري أو إثني . ( للاستفاضة في هذا الموضوع وتبيين الجوانب السياسية والاقتصادية والقانونية وعدم انطباق شروط تقرير المصير والمضار الناتجة عن ذلك انظر مقالاتنا بعنوان:
• (تقرير المصير… تبصرة بالمصطلح والسياق ومدى انطباق ذلك على السودان / 6 حلقات)
• (الحلو والخيار المر: جنوب كردفان/ جبال النوبة وتقرير المصير/3 حلقات)
(4)
ثم برز اتجاه سلبي جديد في الاتفاق الذي تلت أجزاء منه آمال الزين في المؤتمر الصحافي وهو الحديث عن ( الشعوب السودانية) بصيغة الجمع وهو مصطلح دخل في اتفاق جوبا المعيب وتكراره هنا يثير الخوف والقلق من تلاقي رغبات جهات خارجية كثيرة تسعى لتقسيم السودان وتشظيه مستخدمين أدواتهم المحلية في الحكومة الانقلابية والمعارضة. كان شعار الحزب الشيوعي وهتافه التاريخي: عاش كفاح الشعب السوداني بصيغة الإفراد فماذا دها الحزب ليتحول لصيغة الجمع؟
(5)
وآخر السلبيات الكبيرة هو إعلان الحزب الشيوعي عن رفض الآلية الثلاثية والوساطات الدولية بذريعة التدخل الأجنبي.
• فلو برر الحزب رفضه للمبادرة بأنها لا تحقق مطلوبات الانتقال الديمقراطي ومطالب الشعب السوداني وأهداف الثورة لكان مقبولاً.
• ولو اعترض على المسائل الاجرائية وغياب المناخ الملائم للمبادرة أو التحديد الواضح للأجندة والمشاركين الى آخره لكان مقبولاً. لكن الرفض من حيث المبدأ وبذات حجة الانقلابيين فهذا يصب مباشرة في مصلحة الانقلابيين ويعطيهم ذريعة للتهرب.
• ثم أين كانت هذه الصحوة والغضبة الوطنية حينما شارك الحزب في اتفاق القاهرة واتفاق نيفاشا ومفاوضات الوثيقة الدستورية؟
• بل لماذا ركب طائرة – من جوبا لكاودا – من المؤكد أنها لاتتبع لخطوط طيران تجارية ولا للحزب نفسه ولا للأشقاء في دولة الجنوب الذين لم يعلموا بالزيارة إلا بعد حين؟