انقلاب 17 نوفمبر 1958: بالأصالة أم بالوكالة (1-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لا أذكر أنني قرأت لمن كتب عن الجيش والسياسة والانقلاب من رجه في بحثه كما ينبغي لسجل لجنة التحقيق في انقلاب 17 نوفمبر 1958. وغلب في النظر الشائع إليه فينا الأقوال المعنعنة مثل “سمعت من قلان من خشم عبود ذاتو قال قال”. وهو ما يعرف ب”الشاهد الحكائي” في ترجمة لمنصور خالد للعبارة الإنجليزية “anecdotal evidence”. وتصادف أنني استعنت بهذا السجل المنشور لفهم بواعث الانقلاب للفصل السادس من كتابي “. . . ومنصور خالد” (المصورات 208). وسأترك للقارئ الحكم على نفع مثل هذا التوسع في المراجع في فهم الظاهرة التاريخية. وفي الكتاب فصول أخرى عن الجيش والسياسة أمل أن يقف عليها المؤرق بشاغل الجيش في الحكم.
قال السيد عبد الله خليل البِيْه للجنة التحقيق في أسباب انقلاب 17 نوفمبر 1958 إنه لا يدري حتى وقت مثوله أمامهم في 1964 لماذا قام الجيش بذلك الانقلاب. فقد كانوا كما رأى من ضباطه أنهم “مبسوطين وأنا جبتلهم أسلحة”. وكان الناس حين يسألونه إن كان الجيش سينقلب عليه يقول لهم: “الجيش مبسوط في أمان الله”. واستغرب البِيْه للجنة التحقيق في أن يوحي هو بتمرد عسكري يؤدي إلى عزله من الحكم. ومن الجهة الأخرى، استنكر الفريق إبراهيم عبود أمام اللجنة تنصُّل البِيْه عن فكرة الانقلاب في شهادته. وقال إنه من المضحكات أن يتملص البِيْه من فكرة غرسها وتعهدها وحرَّضهم عليها. وزاد أنه لو قال البِيْه “بلاش” في وقتها لما وقع الانقلاب.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أحد الضابطين، البِيْه وعبود، قد غشَّ في القول بعد أداء اليمين. ولكن الضباط لا يكذبون في عبارة سائرة للبِّيْه نفسه. وربما صدَقَ كل منهما حتى مع فارق شهادتيهما. كان كل منهما صادقاً مع نفسه وحقائق تلك الأيام من نوفمبر 1957 بقدر ما يَسع المرءَ الصدقُ أمام لجنة تتحرَّى تـُهماً بخرق الدستور عقوبتها الإعدام. فقد كان كل منهما يصوِّر حدثاً سياسياً بما استقر في وعيه منه وقت وقوعه. والسياسة حمّالة أوجه. والنوايا التي ينطوي عليها المرء قبل الواقعة هي غيرها تماماً بعد وقوعها، وإقبال الناس عليها بالتحليل والتسبيب. فقد كان للبِّيْه والفريق فهماً مختلفاً لما اتفقا عليه خلال شهر نوفمبر 1957. فقد كان من رأي البِيْه أن أمره للجيش هو أمر بالتدخل في صلاحيات الطوارئ حتى تستتب البلاد وتفيق من لغطها السياسي وجدالها. وقد جاء بمصطلح “الطوارئ” هذا اللواء محمد أحمد عروة في شهادته أمام لجنة التحقيق المذكورة. أما عبود فقد فهم من أمر البِيْه (أو وافق هذا الفهم هوى في النفس) أن يقوم بانقلاب “يقلبها” على سياسيين من خصومه، خرجوا على حَدِّ المعقول في السياسة، أي انغمسوا في “لعب العيال” كما تجري العبارة المميزة للبِّيْه.
قد لا يأخذ القارئ بفهم البِيْه لانقلاب 17 نوفمبر من فرط تعلقنا بعبارة “تسليم وتسلم” في وصف ذلك الانقلاب. فقد غلب في تفسيرنا للانقلاب أنه تسليم للحكم من البِيْه، وزير الدفاع في حكومته هو نفسه، بأمر للفريق إبراهيم عبود. وهذا هو فهم الفريق بل هو مرتكز مشروعية حكمه طوال ست سنوات. ولم يطرأ لنا أن نأخذ بفكرة البِيْه من حركة الجيش (حتى لا نقول الانقلاب) على وجاهتها، ونستأنس بها في تحليل الواقعة. فمن رأي البِيْه أنه اتفق مع عبود وصحبه الميامين أن يتدخل الجيش في صلاحيات الطوارئ ويقيم حكومة وحدة وطنية ومجلس سيادة جامع للقوى الحزبية والجنوب. وهو ترتيب سيكون للجيش فيه تمثيل ما. وقد اتفق معظم قادة الانقلاب أمام لجنة التحقيق فيه بأن هذا بالفعل ما تواضع عليه البِيْه والجيش. بل قالوا إن الجيش قد حنث بهذا الاتّفاق في ملابسات سيأتي ذكرها. ولم يشذ سوى عبود الذي قال إن أمر البِيْه كان أمراً بالانقلاب العسكري، وأنه لم يتفق مع أحد بقيام حكومة قومية أو مجلس سيادة جامع. وليس يخلو محضر تحقيق بالطبع من لَيِّ للحقيقة بصورة أو أخرى حتى لو كان من جرى التحقيق معهم ضباطاً ممن اشتهروا بالصدق عند البِيْه. فقد أسقط عبود اتّفاق الحكومة القومية حتى لا تنهض عليه تهمة تجاوز أمر البِيْه. ونفى البِيْه أن يكون قد تحدث مع عبود أصلاً حول الانقلاب لأنه اعتقد في قرارة نفسه أنه لم يتحدث للفريق في أمر كهذا، وكل ما كان بينهما هو اتّفاق طوارئ. وطالما كان الأمر كذلك، صَحَّ له أن يتستر على ما كان بينه وبين الفريق من نجو. حتى لا يورط نفسه في تهمة تدبير الانقلاب. فهو لم يقصد من النجوى بتحرك الجيش أصلاً سوى إعطاء الديمقراطية فرصة أخرى.