حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (10 من 19)

0 40

كتب: د. عمر مصطفى شركيان

.

السُّودان.. الرِّق في عصر ما قبل الاستقلال

 

عرف أهل السُّودان الأصلاء مؤسَّسة الرِّق بصورتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة منذ ما ظلَّ يُعرف في التاريخ السُّوداني بمعاهدة البقط العام 652م. وقد أقدم البحاث الأجلاء بتحليل دقيق ودراسة مستفيضة لهذه المعاهدة، نذكر منهم على سبيل المثال البروفيسور وليام آدمز في بحثه الضخم بعنوان “النوبة: رواق إفريقيا”، والأسقف الإيطالي جيوفاني فانتيني في كتاب “تاريخ المسيحيَّة في الممالك النوبيَّة القديمة والسُّودان الحديث”، والدكتور المصري شوقي عطا الله الجمل في “تاريخ سودان وادي النيل”. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هؤلاء البحاث الثقاة، ممن أقدموا على دراسة معاهدة البقط بتوصيفاتها المتباينة سواءً أكان صلحاً أم اتفاقيَّة أم غيرهما، كانوا من الأجانب. أما المؤرِّخون السُّودانيُّون فقد لامسوا هذه الاتفاقيَّة ملامسة طفيفة لا ترقى إلى البحث العلمي الجدير بالوقوف عنده طويلاً. إذ ما زال كثرٌ من أهل السُّودان من الساسة والأكاديميين والمؤرِّخين والصحافيين يرفضون الإقرار بعمق مؤسَّسة الرِّق في السُّودان، وعدم المساواة، التي ما زالت تسمِّم الجسم السياسي اليوم، وتثير عواصف عاتمة في مسألة الهُويَّة القوميَّة والوحدة الوطنيَّة.
ففي عهود الأنظمة المتعاقبة في السُّودان نشأت مراكز لتجارة الرِّق في سنار والأُبيِّض والخرطوم، وكانت مدينة شندي تعتبر أكبر سوق في البلاد لتجارة العبيد، حيث كانت تنصب إليها هذه البضاعة البشريَّة من الحبشة وسنَّار وبلاد الدينكا وكردفان ودار فرتيت، ثمَّ كان عدد ما يباع فيها أربعة آلاف عبداً في العام. كانت معظم الحملات الاسترقاقيَّة التي أسموها الغزوات توجه إلى جبال النُّوبة جنوبي شرق كردفان، وكانت أعظم قبائل السُّودان في قنص الرَّقيق بقصد بيعه هم البقارة سكان غربي السُّودان، فقد ترتَّب على هذا وذاك أن تجمَّع الجلابة تجار الرَّقيق في تلك الجهات، وأصبحت مدينة الأُبيِّض المركز الأوَّل لتجارة الرِّقيق في البلاد. وفي العام 1854م أصبحت تجارة الرَّقيق الأولى في سوق الخرطوم بلا منازع، وقد ساعد في ذلك فتح النيل الأبيض للتجارة، ومن ثمَّ أصبح الجنوب المورد الأوَّل للرَّقيق. وكان محمد خير الأرجاوي الدنقلاوي هو أوَّل من فتح بلاد الشلك لتجارة الرَّقيق، ونقل عبيدهم إلى سوق الخرطوم. وما أن جاء العام 1860م حتى أمست بأعالي النيل خمسون عصابة مسلَّحة تعمل في خدمة التجار النَّخاسين في قنص الرَّقيق وجمع العاج، وكان لسان حال تلك العصابات يقول: “يا دهب أحمر يا موت أحمر”.
على أيٍّ، فقد تمَّ تجنيد معظم هؤلاء الأرقاء في مصر في الجيش البريطاني-المصري الغازي بقيادة كتشنر في كتيبة سمِّيت بالكتيبة السُّودانيَّة، وكان على رأسها ضابط بريطاني، وقد أمرهم البريطانيُّون أنَّهم متجهون إلى السُّودان، وهذه فرصة سانحة للانتقام عن ذويكم من الذين باعوكم في أسواق النَّخاسة، وربما عدتم ووجدتم ذويكم على قيد الحياة، وتعرَّفتم عليهم، بعد أن افتقدتموهم سنيناً عدداً. وقد ورد ذكرهم في المؤلفات العديدة التي نُشرت عن حملة كتشنر، التي انتهت بموقعة كرري في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م. لعلَّ كان هؤلاء الجنود الأرقاء السابقين هم الذين أمسوا مادة لكتاب رونالد أم لاموث (Slaves of Fortune: Sudanese Soldiers and the River War 1896-1898)، وترجمه الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي تحت عنوان “عبيد الحظ: الجنود السُّودانيين وحرب النهر”، والأصح في تعريب العنوان هو “العبيد المرتزقة: الجنود السُّودانيين وحرب النهر”، لأنَّ كلمة Fortune تعني هنا الارتزاق.
كان المجتمع السُّوداني موبوءاً بظاهرة الرِّق المنزلي والحقلي، وكان بعض السُّودانيين يعتمد عليه في اقتصادهم وحياتهم الاجتماعيَّة، وبخاصة إذا علمنا أنَّ جل قادة الحركة المهديَّة كانوا في السابق تجار الرِّق، وكان واحداً من الأسباب التي جعلتهم يثورون على النظام التركي-المصري هو السياسة الجديدة التي اتخذها النظام يومئذٍ في مكافحة تجارة الرِّق ووضع حدٍ لها. ففي العام 1899م أصدر أوَّل حاكم-عام بريطاني في السُّودان بعد هزيمة الخليفة عبد الله التعايشي، أي السير كتشنر، أمراً لحكام المديريات ومساعديه في مسألة الرِّق، حيث جاء في الفقرة الأخيرة من الأمر ما يلي: “الرِّق غير معترف به في السُّودان، ولكن طالما أنَّ الأخدام يقومون بأعمالٍ لأسيادهم برضاهم، فليس من الضروري التدخُّل في العلاقات القائمة بينهم. أينما – مهما يكن من شيء – وُجِد شخصٌ قد تعرَّض لمعاملة قاسية، وتم التعرُّض لحريَّته أو حريَّتها يمكن أن يُحاكم المتَّهم على هذه التُّهم، وهي جرائم ضد القانون، وفي حالات خطيرة يتم تطبيق أقصى العقوبات.”
عليه، كان يرى كتشنر أنَّه ينبغي احترام دين الأغلبيَّة كما يجب منع استمرار الرِّق دون التدخُّل في الظروف السائدة وما جرى عليه العمل “متى كانت الخدمة مقدَّمة للسادة طوعاً واختياراً.” فالعبوديَّة مشكلة اجتماعيَّة محيِّرة ومثيرة للاشمئزاز، وعادة ذميمة مستقبحة، وتقليد رجعي متخلف تعود جذورها إلى الأزمان الغارقة في القدم، ولكن السلطات الاستعماريَّة حينذاك كانت تؤمن كذلك بأنَّها، برغم من كل شيء، مؤسَّسة ضروريَّة لحفظ النسيج الاجتماعي لبلد كان يحتاج لحكمه في العام 1899م أمناً وأماناً استعماريَّاً بأقل تكلفة ممكنة.
إذ كان السبب في إبداء هذا السلوك هو التعليل بأنَّ الرِّق كان مؤسَّسة موغلة في القدم في السُّودان. وقد تمَّت ولادة كثرٍ من الأرقاء على هذا النحو، وظلوا يعتمدون على أعضاء أسر أسيادهم. وهناك من تمَّ استرقاقهم وهم في مرحلة الطفولة المبكِّرة، ولم يكونوا يتذكَّرون عن قبائلهم البعيدة شيئاً، ثمَّ لم تكن لهم الرغبة في العودة إليها إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً. والرَّقيق من النساء اللائي ولدن أطفالاً من أسيادهن يُعتبرون حسب العادة العربيَّة أحراراً، والأطفال عرباً. غير أنَّه عندما تأتي مسالة الوراثة المشيخيَّة ينبغي أن يكون الوارث عربيَّاً أمَّاً وأباً. كانت سلطات الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) ترى أنَّ تحرير كل الأرقاء فجاءة وعشوائيَّاً قد يهز البناء الاجتماعي الذي ساد ردحاً من الزمان، علاوة على أنَّه سيخلق طبقة كبيرة من أناس فاقدي الجذور (منبَّتين) من كلا الجنسين، حيث أنَّ اقتصاد السُّودان قد يعجز عن امتصاص هذا الكساد الاقتصادي الذي سوف يحدث.
الجدير بالذكر أنَّ كتشنر كان يقول للعاملين معه: “لا تجرؤوا على تذكيري باللوائح، فإنَّها وُضعت لإرشاد الأغبياء.” ولعلَّ خشونة الرجل هذه قد سبَّبت له مزيداً من الحيرة في مدينة القاهرة. فبالنسبة لإدارة السُّودان كان رأيه أنَّه “يجب الانتظار على الأقل لمدَّة جيل دون إثارة مسائل معقَّدة عن كيفيَّة تطبيق النُّظم الغربيَّة؛ ربما كان ذلك عملاً بوجهة نظر مهندس السياسة البريطانيَّة في مصر والسُّودان آنذاك اللورد كرومر، والتي كانت تقول “لا تحاول عمل كثرٍ من الأشياء في ذات الوقت، ذلك لأنَّ في كل قطر يكون المصلح فيه أجنبيَّاً لا يستطيع أن يقصي الطبقات العليا.” إذ كان المقصود بهذه الطبقات العليا في المجتمع السُّوداني هم ملاك العبيد. وبرغم من أنَّ اللورد كرومر لم يكن راضياً عن طريقة كتشنر في الإدارة وسلوكه في معاملة مرؤوسيه، لكن كان عليه أن يوافق على معظم الإجراءات التي رغب كتشنر في تنفيذها في السُّودان.

للمقال بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.