حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (11 من 19)

0 41

كتب: د. عمر مصطفى شركيان

.

جبال النُّوبة.. مدخل تاريخي واصطلاحي

كردفان هي إقليم ولائي في وسط السُّودان، وكلمة “كوردو” تعني “رجل” في لغة كولداجي/كلوقي؟ التي كانت شائعة في المنطقة في ذلك الردح من الزمان، وبذلك سُمِّيت كردفان بهذا الاسم، وهي كلمة نوبويَّة مشتقة من كلدوفان، التي تعي أرض الرجال في لغة إحدى قبائل النُّوبة. وفي لغة كاتب هذه السطور، أي لغة أورونقي (تيمين)، تُطلق كلمة “كورتو” على الرجل، و”كورَيْت” على الحجر أو الجبل. ويسمِّي أهالي قبيل الأما (النيمانج) الملح “كوتِلي”؛ وهناك حرف الكاف في رقصة “الكمبالا”، وفي عبارة “الكجور”، ورقصة “كيرنق” وهي رقصة تكاد تكون مشاعة وسط قبائل النُّوبة في جنوب كردفان، حتى ولئن مارسوها بألحان شجيَّة مختلفة، وجرس موسيقي مختلف من حيث السرعة والبطء من منطقة إلى أخرى، مما يضفي هذا كله لغزاً هاماً على حرف الكاف في لغات النُّوبة وهذا موضوع آخر خارج نطاق هذا المبحث.

مهما يكن من أمر، فإنَّ كردفان في قديم الزمان، أي قبل أن تمتد إليه عوادي الجفاف والتصحُّر، كان يحظى بطبيعة جغرافيَّة خلَّابة ذات غابات كثيفة وأعشاب طويلة، بخاصة في فصول الخريف، وذلك قبل أن تعبث بها أيادي البشر. وقد مثَّلت المنطقة بجبالها الشاهقة ومغاراتها العديدة قلاعاً طبيعيَة وملاجئاً آمنة احتمى بها النُّوبة ضد حملات الاسترقاق. كانت هذه الطبيعة الجغرافيَّة الفريدة تشكِّل عوامل إيجابيَّة من ناحية كما ذكرنا آنفاً، وسلبيَّة من ناحية أخرى، حتى أمست يسيل لها لعاب الغزاة والطامعين لخيراتها الطبيعيَّة ومواردها البشريَّة، برغم من وعورة طرق الوصول إلى مداخيل المنطقة. الطامعون الطامحون في ذلكم الرَّدح من الزمان كانوا صنفين: النوع الأوَّل تمثَّل في الأتراك-المصريين بما توفِّره الحكومة من عتاد حربي (السِّلاح والمؤن الغذائيَّة) للحصول على مبتغاهم. أما النوع الثاني فهم العرب البقارة المحليُّون الذين استظهروا جشعهم حتى الخسَّة في الزحف نحو جبال النُّوبة في كردفان لا للثأر عن دم قتيل، بل للنهب والقتل والسبي والاسترقاق، وأبدوا روحاً مستعظمة في خدمة الغزاة الأتراك-المصريين، ثمَّ كانت متعتهم في الحياة تكمن في امتلاك وسيلة نقل، حصاناً كان أم جملاً، وسلاح للفتك به، سيفاً كان أم بندقيَّة، حتى يستطيعوا القيام بإغارات قصيرة خاطفة يفاجئون ويفظعون بها أهالي النُّوبة، ثمَّ العودة بمجلوب ضخم.

في تأليفه الذي نشره بعنوان “مصر والسُّودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسيَّة في القرن التاسع عشر (182-1899م)”، زعم الدكتور محمد فؤاد شكري أنَّه “كان للدولة العثمانيَّة حقوق في السيادة عليه (السُّودان) منذ القرن السادس عشر.” هذا بالطبع إفك بواح وعدم الالتزام بالأمانة العلميَّة، ثمَّ إنَّ هذا لوث للحقائق بالأكاذيب، واللوث عند قضاة المسلمين هو تعبير على الدلالات غير الكافية لأن تكون بيِّنة على أحد، أو أقلَّ شيءٍ يمكن وصفه بالتزيُّد وفي التزيَّد دوماً تجاوز لما ينبغي، ولا يزيد متزيِّدٌ في خطوة إلا لنقصٍ يجده في نفسه. فمن خلال ما جاء في السفر إيَّاه يظهر بكل وضوح إلام يرمي الذي قام بتأليفه. ثمَّ بهذا التنظير الخاوي على عروشه حاول الدكتور شكري أن يؤطِّر تاريخيَّاً لما بات الساسة في البلدين ينعتونه بالعلاقات الأزليَّة تارة، أو الأبديَّة تارة أخرى، أو الحتميَّة تارة ثالثة، أو الخصوصيَّة تارة رابعة، والخصوصيَّة ضد العموميَّة وفيها إيثار، “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” (الحشر: 59/9). فالأزل هو بداية الوجود، والأبد هو الدهر. فهل حقاً كانت العلاقات المصريَّة-السُّودانيَّة منذ بداية الوجود، وستظل على امتداد الدهر؟

مهما يكن من شأن، ففي ذلكم الحين من الزمان كان السُّودان تحكمه ممالك مسيحيَّة مستقلة على وادي النيل، وسلطنة دارفور في غرب السُّودان، ومملكة الفونج في طريقها إلى بداية التأسيس بعد تدمير مملكة علوة وخراب عاصمتها سوبا. أما أرض الجنوب فلم تطأها أقدام الأجانب بعد. فقد فشلت الحملات العسكريَّة التي كانت ترسلها السلطات الحاكمة في مصر بين الفينة والأخرى في سبيل إخضاع السُّودانيين الذين استبسلوا في تلك الحروب استبسالاً منقطع النظير، حتى اتفاقيَّة البقط التي كانت تمثل الاستغلال الإنساني والاقتصادي والسياسي لأهل النُّوبة في شمال السُّودان كانت قد توقفت تماماً بعد استمرارها لأكثر من ستة قرون (652-1257م) فيما عدا – بالطبع – الاختطافات الفرديَّة التي كان يقوم بها النَّخاسة المتاجرون بالبشر. ثمَّ مضى الدكتور شكري ذاكراً أنَّ “أكبر العوامل شأناً في إرسال حملة السُّودان، مطالبة أهل السُّودان أنفسهم بإنشاء حكومة قويَّة على يد مصر، تقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في بلادهم، وتستبدل بها عهداً من الأمن والنظام والطمأنينة والرَّخاء، أو الانتعاش الاقتصادي، فدخلت أقاليم النُّوبة وسنار وكردفان في حوزة مصر (1820-1823م).”

فضلاً عن ذلك، فإنَّ الدكتور شكري هو الذي ادَّعى في تأليف آخر له بأنَّ “محاولات الإدارة المصريَّة كانت تتجه كلها إلى التخفيف عن هؤلاء الأرقَّاء، وإيجاد نوع من الحياة الآدميَّة المستقرَّة المنظَّمة لهم، طالما أنَّ القضاء النهائي على الرِّق لم يكن مستطاعاً في ذلك الوقت، وأقل ما يمكن أن يُقال أنَّ محمد علي نجح في إدخال شيء من النظام على تجارة كان من المستحيل عليه أن يقتلع جذورها المتأصِّلة في البلاد من أزمان سحيقة.” لا يستقر هذا المنطق الشكري إذا كان الهدف الأساس من غزو السُّودان هو الاسترقاق وما تبعه من أهوال الحصول على الرَّقيق، علاوة على أن مؤسَّسة الرِّق ذاتها في السُّودان قد نشأ بغزو آت من مصر ليس بواسطة محمد علي باشا فحسب، بل منذ عهد عبد الله بن أبي سرح واتفاقيَّة البقط العام 652م، كما ذكرنا آنفاً.

 

للمقال بقيَّة،،،

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.