درس العلمانية لنا بعد رو vويد: الضمان ضمان الله

0 88
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
يقع مبنى تنظيم النسل (الاسم الآخر لتقديم خدمات الإجهاض للراغبة) على شارع بروفدنس الرحيب في مدينة كولمبيا بولاية ميسوري حيث أقيم. وكنت كلما مررت به أجد شخصين، ثلاثة، أو أربعة، إن تكاثروا، من كبار السن أمام بوابته يرفعون رايات الاحتجاج على وجوده في وسطهم. ويذرعون الشارع سحابة نهارهم لا يمنعهم حر ولا برد. ويسعدهم إن مر بهم من ضرب البوري تضامناً.
لابد أنهم سعدوا سعادة لا توصف والمحكمة العليا ترمي بحكم رو V ويد التي أذنت بالإجهاض منذ نصف قرن. بدأت بالنظر إليهم اول مرة يخامرني الشك في نجاح قضيتهم وهم “زوال” شبحي بوجه عقيدة الإجهاض المتمكنة. ولكن منذ حين لم أعد متأكداً من تنائي النصر عنهم والقوى المحافظة واليمينية في أمريكا أعلنت الجهاد على المشروع العلماني في جبهاته كلها. وهزت الشجرة طويلاً بمكر واستماتة وسقطت الثمار في عبها: السلطة القضائية في صورة المحكمة العليا عن طريق السلطة التنفيذية لترمب. وتتلمظ في الانتخابات التكميلية في نوفمبر القادم وانتخابات الرئاسة في 2024 لتستولي على الكونغرس، سلط التشريع. وتخلي ريحة المؤسسة العلمانية طير طير.
في خبر سقوط “روv ويد” المدوي في أقصى الأرض علم كبير بدا لي أنه غاب عن كثير ممن طلب العلمانية في بلدنا. فالإجهاض الذي ذهب حكم المحكمة العليا الأمريكية بريحه أول أمس مطلب علماني في حرية المرأة في جسدها لا تقيده تعاليم دين صريحة أو بتزكية منها. فدوام الحال للعلمانية (أو مفردات منها) من المحال. فدرس تهافت رو v ويد أن العلمانية ليست منتجاً غربياً اكتملت أركانه وسطهم وصار طبيعة ثانية فيهم. خلافاً لذلك فهو عملية (بروسس process) مما يقول أهله عنه إنه عمل تحت التشطيب ما يزال (work in progress). وهي عظمة نزاع بين الأطراف والعبارة الإنجليزية هنا هي “contested terrain”: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
كان ذلك منطقي في كلمات ثلاث كتبتها تعليقاً على مطلب الدكتور أبكر آدم إسماعيل بعلمانية الدولة، أو كانت مغادرة شعب النوبة الذي يليه للسودان: علينا يمهل وعليهم يوسع. وقلت إنه أسفر في دعوته عن خطئتين معلومتين في تبني المثقف في العالم الثالث لخبرات الغرب مثل العلمانية.
الخطيئة الأولي هي عقيدته أن هذه الخبرة الغربية مثل العلمانية منتج استكمل الغرب أركانه ولم يبق لنا غير أن “نشفه” منهم بالكربون. فقال أبكر في كتابه الذائع “جدلية الهامش والمركز” إن العلمانية قطيعة فكرية مع الماضي تحققت للغرب “حيث لم يعد هناك مفكر أوربي منذ عصر النهضة يختلف مع هذه المسلمة”. و”مسلمة” تكفينا في بيان ما أردناه من خطيئة “الشف” من خبرة الغرب. ولن نعدم بين المفكرين الاوربيين بالطبع من لم يقبل بالعلمانية كفكرة ناهيك كمسلمة. ومصرع رو v ويد شاهد على أن السياسة بيئة لا تتوالد فيها المسلمات.
أما الخطيئة الثانية فهي أن العلمانية، متى صارت مسلمة، منتج يمكن شتله في بلد مثل السودان بأعجل ما تيسر. فمتى طلبته نلته بحذافيره الأوربية لا تنقص خردلة. ونُضيع، متى تعاطينا مع الخبرة الأوربية كمنتج، السيرة الفكرية والسياسة الطويلة التي تضافرت على إنتاجه. ومع ذلك فأبكر ربما كان أحسننا ادراكا لهذه السيرة الخلاقة من وراء المنتج الأوربي. فثبّت في كتابه السبق ذكره أن وراء المنتج الأوربي “نضالات فكرية وسياسية صابرة من خلال نقد وهدم الوضعيات القديمة أي ما يسمى بالعصور المظلمة. أدت تلك النضالات إلى القطيعة مع الماضي، ووضع أسس جديدة قامت عليها النهضة والتقدم الذي ما يزال مستمراً”. ولعله من الصعب القول إننا قد ركبنا حتى تاريخه هذا المركب الأوربي الخطر في القطيعة مع الوضعيات القديمة، أو بذلنا بذل المفكر الأوربي. ولن يزعم أبكر لنفسه ارتكاب هذه القطيعة مع صنميات الماضي من فوق تبشير بالعلمانية يتغلغل عروق فكر الأمة. فيغير وجدانها فتقبل العلمانية لا كمسلمة بل كمنجز تعض عليه بالنواجذ حتى لا يقع في براثن من لا يرحم.
ويضرب أبكر صفحاً عن خوض هذا الطريق الوعر بمطلبه أن يتسلم العلمانية “قبض إيد” وإلا “قنجر”. وهي العبارة التقليدية في فراق جماعة لقومهم بعد خصومة والارتحال لموقع جديد. وليس من يدعوه أبكر ليسلمه العلمانية “كاش داون” بأفضل من الداعي. وكان حمدوك تواضع مع الحلو (بعد زيارته لكاودا البعيدة) على فصل الدين عن الدولة وسمع من الفريق الكباشي نهرة أو “نجرة” قال: عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
وتفتق ذهن الحركة الشعبية عن حيلة ربما أوحى بها محمد جلال وهي أنه، متى حصلوا على العلمانية ضمن أشياء أخرى، كتبوها مبادئ “فوق دستورية” في دستور البلاد. ويريدون لهذه المكاسب مثل العلمانية بهذه الحيلة أن تكون فينا لأبد الآبدين لتنشل يد كل قاصد لها بالشر. وعصفت آية روي v ويد بكاذبات الأماني عما لا تطاله السياسة من مسلمات فوق دستورية. وطالما كنا في ديمقراطية الغلب فيها بالصوت لا بفوهة بندقية فلا ضمان لمبدأ إلا ضمان الله.
متى مررت من تاني بعجائز مبني تنظيم النسل على شارع بروفدنس بكولمبيا ميزوري ضريت البوري مباركاً. فالخصم المواظب راكب الرأس علم مثل شقة البلد.
يا حركة شعبية: استهدوا بالله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.