عوك يا حمدوك: نصيحتن تخدرك

0 95
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
يقال لا تخرب الموت ب”الرفسي” أي موت موتك ولا تتجرس. وتطرأ لي العبارة بالتماسي ألا نفسد خراب الحكومة الانتقالية بالضلال في تشخيص هذا الخراب. وأول نذر الرفس هو التلاوم فيمن كان السبب في المصيبة كأن هناك “فرقة ناجية” ممن شاركوا فيها من صف الثورة، أو حتى من اعتزلوها.
دعوت مرات لكي نحسن الأداء فيما يعرف ب”اليوم التالي أو العاقب” لخيبة الانتقالية بتحليلها كملكية جماعية. ويقع عيب كل جماعة حيالها على حدة في هذا التحليل في إطار نظر محيط بالكارثة لا خبطا،ً ولا للكسب العاجل.
ستجد في باب الخبط في نهج الرفس من يقول إن قحت لم تكن تستمع للنصح: نصحتهم فما استبانوا إلا في الغد. ويقول بقوله هذا ويظن نفسه من النُجاة. ويغبى عن أنه أضر بالانتقالية بذلك ولم يحسن إليها. فالنصح ليس من شيمة صاحب الرأي والقلم كما تفق لي في هذه الكلمة القديمة:
أتابع هنا التعليق على بعض الأداءات السياسة الأخيرة للثورة والثوريين من زاوية ما سميته اقتصاد الطاقة الثورية. فبدا لي أن مصارفنا للطاقة الثورية، وهي سلاحنا الذي لا غيره، مرتبكة. فتجدنا نولي أمراً هيناً قصارى جهدنا بينما يقصر باعنا عن أمور حرجة للثورة. وهذا ما تطرقنا إليه بالأمس. وتجدنا، من جهة أخرى، نرتكب أداءات سياسية لا نوفيها استحقاقها فتؤذي من حيث أرادت النفع.
ومن أوسع أبواب هذا النقص ما استنته صفوة الرأي عندنا من خدمة الثورة ب”نصح” القائمين بالأمر. فهم يشيرون عليها بخطط بدا لهم صوابها من واقع تخصصهم. وغالباً ما سبق الناصح نصيحته ب”عوك” المتناغمة مع “حمدوك”. والنصح مما يسديه المثقف التقليدي في نظام قديم يرعى فيه بقيده لا يطمع لأكثر من “ترقيع” النظام لا تغييره رأساً على عقب. فمثل هذا التغيير في ذمة المثقف العضوي الذي بينه وبين النظام القديم طلاق بينونة. وأذكر كلمة ناضجة لعالم الاجتماع طلال أسد، الذي صدر له “عرب الكبابيش” عن رسالته الجامعية للدكتوراه، عن ديناميكية النصيحة في الفكر الإسلامي.
وبينما يتجه المثقف العضوي بالنصيحة إلى السلطان يتجه المثقف العضوي بكتاباته إلى جمهرة الناس يذيع في أوساطها الوعي بمشروعه. فهو صانع أجندة التغيير يواليها بوجهين. الوجه الأول بخلق حقل خطابي (discursive field) يتداعى إليه أنداده في كار الكتابة يصقلون به المشروع بتقليبه على وجوهه جميعاً حتى يصفو من الشوائب ويتجمر. ويصير هذا الحقل الخطابي، في الوجه الثاني، رافعة للمشروع يستقطب الناس حوله فينشأ منه تحشيد للتغيير يسمى “الكتلة الحاسمة” (critical mass). وهي غزارة تكون بها الفكرة قد تخمرت، وأزف وقتها، وصارت قوة مادية للتغيير. وهذا طريق وعر ومسهد للتغيير تكون به “النصيحة” تخريمة ضالة لتبديل الحال، وشقية المردود.
لا يضيق المثقف التقليدي متى لم يأخذ الحاكم بنصيحته. فهي مبذولة لصنفرة محدودة للنظام إبراء للذمة. ومكافأتها في يوم غير يومنا هو يوم الحساب. أما المثقف العضوي، متى ارتكب طريق النصح للحاكم، ضاق متى لم يأخذ الحاكم بنصحه لأنه مبذول لتغيير الحال في يوم المسلمين هذا.
وتمثل لي الضيق بتجاهل النصيحة وعواقبه في كلمة أخيرة للدكتور الوليد ماديو بعنوان “المتاهة الأخيرة” (سودانايل 10 أكتوبر 2019) قال فيها إنه نصح أولى الأمر الثوري كتابة وشفاهة، في إطار الحديث عن إعادة هيكلة نظم الحكم، ووصى بضم وزارتي الثقافة والرياضة لأن نتائجهما الوسيطة واحدة. وأضاف بأنه نصح ب”ضرورة استحداث وزارة تخطيط تنموي وإحصائي تتضمن أقسام اقتصادية واجتماعية وبيئية وقسم تنمية مؤسسية”. فلم ينتصح ولي الأمر. وعادت حليمة بعد النصح إلى قديمها باستعادة وزارة العمل والرعاية الاجتماعية التقليدية. وهذه ردة فوجئ بها مادبو لأن الرعاية أمر خدمي تقوم به كل وزارة خدمية لا سيادية. وخلص مادبو من تأبى قحت (وهو أول من أطلق عليها قحط) على النصح، ضمن أشياء أخرى، إلى دمغها بأنها ثورة مضادة. وطلب من السودانيين الكف عن ترداد عبارة “الثورة المضادة” لأن قحت هي الثورة المضادة، بل هي “السد الذي يقف حائلاً منيعاً دون تحقيق السودانيين أهداف ثورتهم المجيدة المتمثلة في تحقيق السيادة الوطنية، وتفكيك الدولة المركزية، وإعادة هيكلتها بغرض انصاف الشرائح المستضعفة”.
وهكذا نرى طاقة للخير ارتدت إلى سلبية مؤسفة وباكرة من ثورة الشعب لأنها لم تأخذ مصرفها في الدعوة للتغيير بحقه في الكدح الفكري والتبشير. فاختصر مادبو طريقه للحاكم بالنصيحة. وهذه خطة ضيزى لمن رغب مثله دائماً في تغيير اجتماعي يقضي على أخضر القديم ويابسه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.