الملء الثالث لسد النهضة.. بين مساري التنمية والحسم العسكري

0 87

بقلم أ. محمد سليمان الزواوي

.

لا تزال أزمة سد النهضة الإثيوبي تراوح مكانها بعد أكثر من عقد من الزمان في منطقة وادي النيل، وتهدد بتصعيد المواجهات بين إثيوبيا من جهة، وما بين السودان ومصر من جهة أخرى، قد تصل إلى حد الصراع العسكري والحرب التقليدية المفتوحة؛ لا سيما بعد المناوشات الأخيرة التي حدثت على الحدود الإثيوبية السودانية بعد تحرير السودان لمنطقة الفشقة الحدودية، واتهام الخرطوم لأديس أبابا بإعدامها ثمانية سودانيين منهم سبعة جنود كانوا أسرى لديها، والتمثيل بجثثهم على الملأ، بعد أن تعرَّضت قوة استطلاع تابعة للجيش لكمين في الفشقة الصغرى قبالة قرية الأسِرّة بواسطة قوات إثيوبية تدعمها مليشيات مسلحة.

كما أن التطور الآخر هو ترقُّب مصر لعملية الملء الثالث في موسم الفيضان الذي يبدأ شهر يوليو الجاري، ويستمر حتى أكتوبر القادم؛ حيث تخشى مصر ألا يكون موسم الفيضان الحالي غزيرًا كسابقيه، ومِن ثَمَّ تقل حصة مصر من المياه، وهو ما قد يستلزم ردًّا مصريًّا حاسمًا.

وفي الكواليس تتدخل الكثير من القوى الإقليمية والدولية من أجل نزع فتيل هذا الصراع المرير؛ حيث تعمل الولايات المتحدة من جهة وكذلك الاتحاد الأوروبي من أجل تقريب وجهات النظر، فيما تعمل الإمارات على رعاية مسار تفاوضي يحاول تقريب وجهات النظر بالرغم من عدم موافقة مصر على الرؤى الإماراتية بشأن سد النهضة، باعتبار أن أبو ظبي صاحبة مصلحة باستثماراتها الممتدة في إثيوبيا، وإصرار مصر على وجود إطار قانوني ملزم يجبر أديس أبابا على توفير حصة مصر من المياه بلا نقصان والتعهد بذلك.

وقد زار وفد سوداني أبوظبي مؤخرًا من أجل مناقشة العرض الإماراتي دون حضور ممثل مصري، بما يكشف حجم الخلاف بين مختلف الأطراف حول رؤية الحل، فيما تستعد مصر بالتوازي عسكريًّا؛ خشية حدوث موسم جفاف أو جفاف ممتد، وهي الفترات التي تستمر ربما لسبع سنوات عجاف، ومِن ثَمَّ فقد تعاقدت مصر مؤخرًا على منظومات تسليح متنوعة تُؤهّلها لشَنّ هجمات منسَّقة على إثيوبيا في حال الفشل في الوصول إلى مبتغى مصر بتوقيع إثيوبيا على اتفاق قانوني ملزم، في الوقت الذي تحجز فيه أديس أبابا حصة مصر المائية في حالة حدوث حالات جفاف.

وفي هذا الملف الشائك خاضت مصر عدة مسارات، أولها المسار التفاوضي الدبلوماسي، والذي كان هدفه الرئيس هو الوصول إلى إطار قانوني ملزم يمنع إثيوبيا من حجز المياه وعدم توفير حصة مصر المائية، وكذلك ينظّم حصص الدول الثلاث في حالة حدوث جفاف أو جفاف ممتد، كما يهدف إلى إشراك كل من مصر والسودان في عمليات التشغيل والملء، بما يوفّر مصالح الجميع التنموية والمائية.

لكنَّ هذا المسار تعرض إلى انتكاسات متكررة، أبرزها رفض إثيوبيا التوقيع على اتفاقية برعاية أمريكية تحفظ حقوق الدول الثلاث، وما تلا ذلك من تلكؤ ومماطلة إثيوبية لهذا المسار التفاوضي الدبلوماسي، بما أدى إلى تعطيل المسار القانوني برُمّته.

وفي أبوظبي ترى الإمارات أن أديس أبابا مُصرّة على عدم التوقيع على ذلك الإطار القانوني، ومِن ثَم عرضت مسارًا تنمويًّا يربط مصالح الدول الثلاث بعضها ببعض بما يمنع الإضرار بأيّ منها، وضخّ استثمارات إماراتية وخليجية في ذلك المسار بما يُحقّق الأهداف التنموية والاستراتيجية، وهو ما كان موضوع مناقشة الوفد السوداني في زيارته الأخيرة إلى الإمارات، ولكن تتحفَّظ مصر على ذلك المسار باعتباره يضع كل قواعد اللعبة في يد إثيوبيا، ويجعل لها اليد العليا فيما يتعلق بعمليات الملء والتشغيل، ولا يمنعها في أي وقت من حجز المياه عن السودان ومصر، كما أن مصر تريد اتفاقًا يحفظ ماء وجهها بعد الإهانات والمماطلات الإثيوبية المتكررة في ذلك الملف.

وهذا ينقلنا إلى المسار الثالث وهو المسار العسكري؛ حيث تعاقدت مصر مؤخرًا على شراء 23 طائرة شينوك، والمخصَّصة لمهام الإنزال البري للقوات الخاصة خلف خطوط العدو، وكذلك قادرة على حمل معدات عسكرية ثقيلة، وقادرة على قطع مسافات طويلة، بالإضافة إلى تعاقد مصر كذلك على طائرة النقل العملاقة سي130 سوبر هيركيوليز، والقادرة كذلك على القيام بعمليات التشويش والاستطلاع الجوي وحمل الصواريخ الضخمة زنة عشرات الأطنان، وكل ذلك يفيد بأن مصر تستعد جديًا لتوجيه ضربة عسكرية في حال فشل المفاوضات والتوصل إلى الإطار القانوني الملزم الذي تنص عليه القاهرة.

وفي ذلك السيناريو من المتوقع أن تقوم مصر بشنّ ضربات للمطارات الإثيوبية العسكرية ولمنصات الدفاع الجوي، ثم تقوم بعملية احتلال لمنطقة السد عن طريق القوات الخاصة المدعومة بمدافع ثقيلة مضادة للمدرعات وكذلك صواريخ دفاع جوي محمولة على الكتف لتحييد المقاتلات والمروحيات الإثيوبية، وربما يتوازى مع ذلك إجراء اتفاقات مع إقليم بني شنقول وكذلك مقاتلي التيجراي من أجل عزل المنطقة الشمالية من إثيوبيا عن الحكومة المركزية، وتعزيز وضع تلك الأقاليم لا سيما بعد الحرب الأهلية الأخيرة التي اندلعت بين تلك الفصائل والحكومة المركزية.

وبالرغم من الثقل الإقليمي والعسكري لمصر، إلا أن الحكومة المركزية في أديس أبابا تستخدم سد النهضة كسلاح لحشد الجبهة الداخلية ضد الخطر الخارجي، وأداة لتوحيد شتات الشعب الإثيوبي بأعراقه وأقاليمه المختلفة، فاتخاذ مواقف متعنتة ظل هو خيار إثيوبيا المفضّل في السنوات السابقة، بالرغم من الفشل المتكرر لتحقيق أهداف السد سواء فيما يتعلق بكميات التخزين أو في عمليات توليد الكهرباء، وتراهن على تردد مصر لتوجيه ضربة عسكرية للسد، وتظهر حالة من التحدّي، معتمدة على تحالفاتها الإقليمية مع دول الخليج بالأساس، وكذلك على علاقاتها مع روسيا وقدرة موسكو على تزويدها بالسلاح، وكذلك دعم روسيا لمواقف إثيوبيا في المحافل الدولية.

وتظل المعادلة المصرية الحالية كالتالي: طالما تدفقت حصة المياه المصرية فلا وجه للهلع، ولا ضَيْر من استمرار المفاوضات حتى بصورتها العبثية، ولكن يظل المحك الرئيس والمنعطف الأخطر هو في حالة حدوث ما تخشاه مصر من حدوث الجفاف أو الجفاف الممتد، ففي تلك الحالة لن تجد مصر مفرًّا سوى الاحتلال الكامل لمنطقة السد والسيطرة على بحيرة تانا ومخزونات المياه وراء السد، والتمترس في تلك المنطقة بصورة دائمة، مع توفير غطاء سياسي بعقد اتفاقات مع إقليمي التيجراي وبني شنقول، بعقد مقايضات تتمثل في أن تقوم مصر بتشغيل كهرباء السد وتصدير الكهرباء مقابل تسليم عائداته التجارية إلى تلك الأقاليم في حالة قبولها للتحالف مع مصر، بالرغم من توقُّع حدوث عقوبات عسكرية واقتصادية على القاهرة نظير احتلالها لأراضي دولة أجنبية، إلا أن السوابق الأخيرة في العلاقات الدولية ربما تدعم موقف مصر، لا سيما بالنظر إلى حالات التدخل العسكري الضرورية من أجل الحفاظ على الأمن القومي واستمرار الحياة، ومن تلك الأمثلة: التدخل العسكري التركي في قبرص الشمالية، وكذلك التدخلات العسكرية الروسية الحالية في أوكرانيا بعد ضمّ القرم وما تلاه من غزو عسكري شامل للأراضي الأوكرانية.

ولا شك أن ذلك الحل العسكري سيكون بمثابة خسارة للجميع في ذلك الملف الشائك؛ والذي تستخدمه أديس أبابا كأداة لتعزيز مكانتها في القرن الإفريقي من جهة، ولتحقيق أهدافها التنموية من جهة أخرى، وذلك بالطبع دون التطرق إلى فرضيات المؤامرة بوجود أطراف خارجية تعمل على تقويض إمكانات مصر الإقليمية باستخدام السد الإثيوبي، ففي ذلك السيناريو المظلم بالحل العسكري ستخسر إثيوبيا عائدات التنمية، وستغامر بفقدان أقاليمها الشمالية بعد حرب التيجراي، التي صرح زعيم جبهتها أن بقاء إقليمه ضمن الحكومة المركزية بات محل شك، كما ستنفق مصر أموالاً طائلة نتيجة لتمويل تلك الحرب وتكلفة استمرار قوات خارج مصر لفترة غير معلومة من الزمن، بالإضافة إلى العقوبات المتوقعة، كما ستهدد في الوقت ذاته المشاريع التنموية والاستثمارات الأجنبية في البلاد، بالإضافة إلى خسارة إثيوبيا تكلفة السد وعائداته، والمقدرة بمليارات الدولارات. وبالنظر إلى المسار السابق في السنوات الماضية، يبدو أن انتظار وقوع الكارثة هو الذي سيؤدي إلى تحريك المياه الراكدة في ذلك الملف دون النظر إلى الخيارات العقلانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.