تحديات التغيير الجذرى فى ظل التابوهات السياسية والمسكوت عنه فى السودان (٣ – ٤)
بقلم: الجاك محمود أحمد الجاك
.
يزداد المشهد السياسى فى السودان تعقيدا وتشابكا، فيما تعيش البلاد فراغا دستوريا وأزمة شرعية غير مسبوقة، الأمر الذى يحتم على الجميع الوقوف فى الجانب الصحيح من التاريخ بالتحرر من ضيق الأفق السياسى والتفكير خارج الصندوق لتفادى إنهيار الدولة الذى باتت مؤشراته واضحة، ولكن يستحيل تفادى إنهيار الدولة فى ظل الإصطفاف والتواطؤ الآيديولوجى الشاخص والرافض للتغيير. فلا بد من الحديث عن المسكوت عنه والتحلى بالشجاعة والمصداقية اللازمة فى توصيف جوهر المشكلة، بدلا عن الإصرار على ممارسة الفهلوة السياسية على غرار (عقلية الشنقيطى)، وتعمد تقديم حلول صفرية وغير واقعية بهدف إستحمار الآخرين وخلط الأوراق، وعمل كل ما من شأنه قطع الطريق أمام التغيير الجذرى. فلا قيمة للثورة، أى ثورة إذا لم تلامس جذور المشكلة وتعمل على مخاطبتها ومعالجتها بصدق.
يتعبن أن يقود حديثنا فى المقال السابق عن الآثار العميقة للعبودية وتجارة الرق والعنصرية فى السودان بالضرورة إلى تعريف مفهوم الجلابة وكيف قامت هذه الأقلية الحاكمة (The ruling minority) بتشكيل المركزية الإسلاموعروبية التى مكنتهم من السيطرة على مفاصل الدولة، وكما يجب الحديث بوضوح عن فرض الجلابة كمجموعة مسيطرة هويتهم قسرا على جميع الشعوب السودانية وتأثير ذلك فى تشكيل بنية الدولة القديمة والتى تعبر عنهم وحدهم، أى السودان القديم (مؤسسة الجلابة). هذه المؤسسة العنصرية الفاشلة (السودان القديم/دولة الجلابة) هى أس المشكلة. لقد إنكشفت عورتها وفقدت مقومات صمودها وبقائها والسبب واضح وهو أنها قامت على أسس وتصورات خاطئة ومرفوضة، ولذلك يجب تفكيكها لمصلحة مشروع وطنى حقيقى، أى لصالح بناء سودان جديد يسع الجميع.
فالجلابة كما جاء فى منفستو الحركة الشعبية ٢٠١٧ – صفحة (٤) هم مجموعة إجتماعية من الأفروعرب (Afro-Arab) نشأت وتطورت منذ القرن الخامس عشر، وهم عناصر من التجار الأجانب والتجار المحليين وبما فى ذلك تجار الرقيق الذين أسسوا أنفسهم فى مراكز تجارية أصبحت فيما بعد مراكز وبلدات حضرية مهمة مثل الدويم وأم درمان وسنار…….إلخ. والجلابة فى حقيقتهم هجين، أو خليط من الجنسيات والقوميات الأفريقية المحلية والوافدة، العرب المهاجرين، الأتراك، الأغاريق…..إلخ. الذين تفاعلوا وتزاوجوا بشكل رئيسى فى عملية تاريخية إمتدت منذ القرن الخامس عشر فى شمال السودان. إذا الجلابة، جزئيا هم أفارقة وسودانيون، ولكنهم إختاروا أن يعرفوا أنفسهم كعرب على الرغم من أن بعضهم فاحم السواد، ومما يجدر ذكره فقد كذبت فحوصات ال DNA مؤخرا إدعاء الجلابة للعروبة.
وبسبب قوة موقعهم الإقتصادى والإجتماعى (مقارنة بالجماعات الأخرى)، كان الجلابة أكثر تأهيلا لوراثة سلطة الدولة عندما منح السودان إستقلاله فى العام ١٩٥٦، هذا بالإضافة إلى حقيقة أن الجلابة قد تمت تنميتهم ومساعدتهم بواسطة النظام الإستعمارى. وتم إعدادهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة لحيازة السلطة بلا منازع خلفا للإستعمار المباشر، وبالتالى الجلابة هم أقلية حاكمة صاحبة إمتيازات، وهذا يفسر لماذا يتبنون آيديولوجيا العروبة والإسلام السياسى ليتخندقوا ويحموا إمتيازاتهم الإقتصادية وموقعهم السياسى والإجتماعى فى المجتمع السودانى لتتمحور مشكلة السودان بعد ذلك فى هيمنة هذه الأقلية، أى الجلابة.
المركزية الإسلاموعروبية :
لعل أخطر ماكنيزمات التمركز والتهميش التى إستخدمتها الأقلية الحاكمة للسيطرة على مفاصل الدولة وإخضاع الأغلبية المهمشة هى المركزية الإسلاموعروبية. وقد تأسست المركزية الإسلاموعروبية فى السودان من خلال علاقة التعاون بين قاعدة المركز (الطرف الداخلى) والغزاة (الطرف الأجنبى). وتتكون قاعدة المركز من الجلابة وزعماء الطوائف الدينية وزعماء القبائل والمجموعات التى تشكل حقل الثقافة العربية الإسلامية فى الشمال والوسط النيلى (أولاد البحر). وكان للجلابة دورا رائدا فى عملية تشكيل المركزية الإسلاموعروبية وإستمرارها، وكان لذلك أسباب إجتماعية وسياسية وإقتصادية.
ظلت مجموعات المركزية الإسلاموعروبية تعتبر نفسها الممثل الرسمى للثقافة العربية الإسلامية فى السودان، وجعلت منها الثقافة الرسمية للدولة. وبناءا على ذلك، فقد قامت الأقلية الحاكمة من الإسلاموعروبيين بفرض الثقافة العربية الإسلامية كمحدد أوحد للهوية الوطنية فى السودان، وفرض اللغة العربية كلغة رسمية للدولة. كما إدعوا التفويض الإلهى (They claimed devine mandate) وفرضوا الإسلام كدين رسمى وكمحدد رئيسى للهوية الوطنية للدولة، وجعلوا منه المصدر الرئيسى للتشريع وقد نتج عن ذلك بناء ترسانة قوانين عملت وما زالت تعمل على إخضاع وإذلال الأغلبية Subjugation and humiliation of the majority، وتقوم بحراسة سلطة الأقلية، وتكرس لفرض هويتها الأحادية الإقصائية وحماية إمتيازتها. وتبنى الجلابة تنفيذ نظرية بؤتقة الإنصهار (Melting pot) بهدف أسلمة وتعريب السودان، وإتباع سياسة طمس وإبادة ثقافات المجموعات غير المنتمية لحقل الثقافة العربية الإسلامية، وذلك بمحاربة لغاتها من خلال سياسة تغيير أسماء التلاميذ فى المدارس ومنع التلاميذ من التحدث فى المدارس بغير اللغة العربية، بل والمعاقبة على إستخدام التلميذ للغته الأصلية. كذلك ظلت محاربة اللغات والثقافات من خلال تغيير أسماء الأماكن والمعالم وإستبدالها بأسماء عربية، وبالطبع ليس هناك أخطر من محاربة اللغة بهدف طمس وإبادة ثقافة الآخر، فاللغة هى حاملة الثقافة والهوية وخازنة القيم، وبفقدان اللغة يفقد الإنسان ثقافته وهويته فيصبح تابعا ومتماهيا فى هوية المجموعة المسيطرة.
لقد أدرك المناضل الراحل يوسف كوة مكى طبيعة الصراع فى السودان منذ وقت مبكر، وخلص إلى أن هناك أزمة هوية، وأن هذه الأزمة تشكل أساس وجوهر المشكلة فى السودان. إلى جانب أنه إكتشف كيف يتم تسييس الدين وإستغلاله فى السياسية كنتيجة لإصرار النخب والحكام فى المركز على إستخدام الدين كسلاح آيديولوجى إمعانا فى قهر وإخضاع وإذلال الآخر الثقافى والعرقى، وأن الدين نفسه قد تم فرضه بواسطة المجموعة المسيطرة كواحد من محددات الهوية الوطنية. لقد إكتشف يوسف كوة أن ثمة خطأ يجب تصحيحه، وهو كون السودان تم تعريفه كبلد عربى قد وضع أساسا خاطئا لمفهوم الهوية الوطنية للسودان. وبتبلور هذه الفكرة لدى يوسف كوة، بدأ يفكر جديا فى أنه لا بد من فعل شيئ بهذا الخصوص، الأمر الذى قاده مع بقية رفاقه فى تنظيم كومولو إلى إتخاذ قرار الإنضمام للحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان فى العام ١٩٨٤. لقد مات يوسف كوة واقفا فى ٣١ مارس ٢٠٠١، ولكنه خلف ألف يوسف كوة عهدهم جميعا أن يبقوا على جذوة النضال متقدة.
بيت القصيد وصفوة القول، لقد كشفت المركزية الإسلاموعروبية عن عنصرية عرقية ودينية بائنة، وظلت تمارس الأقلية الحاكمة الإستبداد السياسى المحمى بالسلاح، وتتحكم فى الأغلبية بالإستناد على مشروعية العنف بدلا عن مشروعية العقد الإجتماعى. إذا لا بد من إلغاء مشروعية العنف والغلبة وتبنى مشروعية العقد الإجتماعى، كما لا بد من تفكيك المركزية القابضة والمستبدة وتبنى اللامركزية، ومع أن الجاك سوف لن يرضى بتفكيك البيت الذى بناه، ولكنه لن يستطيع وقف عجلة التاريخ، وتظل الحقيقة كما قال الدكتور جون قرنق ديمابيور إن السودان لن يكون كما كان من ذى قبل (Sudan will never be the same again).
ونواصل فى الجزء الرابع والأخير،،،