مليونية الثلاثين من يونيو في السودان: دلالاتها وآفاقها (2-2)

0 61
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
عرضنا في الجزء الأول لمنشأ مليونية 30 يونيو في 2019 في سياق المفاوضات العصيبة المضرجة بالدم بين قوى الحرية والتغيير والانقلابيين العسكر في 11 إبريل 2019. ونواصل:
ما أكسب 30 يونيو منزلتها العليا من دون غيرها من المليونيات أنها كانت المليونية التي فرضت على العسكريين أن يعودوا للتعامل مع قحت بعد استبعاد في مفاوضات انتهت بتوقيع الوثيقة الدستورية التي قَعّدت لشرعية للحكم الانتقالي ومؤسساته في أغسطس 2019. فكان العسكريون ظنوا أنهم تخلصوا من “لجاج” قحت بفضهم اعتصام القيادة في 3 يونيو 2019 بدموية لقيت استنكاراً عالمياً. وخرج المجلس العسكري يذيع برنامجه لما بعد فض الاعتصام واعتزاله قحت. فأعلن تعليق التفاوض معها، وقيام انتخابات خلال تسعة أشهر من تاريخه بما يفتح الباب لكل القوى السياسية الذين أرادت قحت إقصائهم حسب قوله. وخرجت مليونية 30 يونيو، في سياق ضغط دولي كبير لعودة الأطراف السودانية للتفاوض، لا لتستعيد قحت لمائدة التفاوض فحسب، بل لتعززها كالقوة مناط الحراك والتغيير.
وما أشبه الليلة بالبارحة. فكان العسكريون أنهوا شراكتهم مع قحت من طرف واحد فيما عرف بانقلاب 25 أكتوبر 2012. فحلوا الحكومة الانتقالية ومؤسساتها وقرارتها كافة وعقدوا حلفاً في الدولة مع الجماعات التي ظلوا يحتجون على إقصائها بواسطة قحت لانفرادها بالحكم. وهو ما يعيدنا إلى عام 2019 الذي أنهى العسكريون تفاوضهم مع قحت بفض الاعتصام كما رأينا. وكانت مليوينة 30 يونيو هي التي عززت قحت تصويتاً بالأقدام لتعود طرفاً في التفاوض مع العسكريين لا بديل لها.
وعليه يمكن القول أن تجديد 30 يونيو في ذكراها الثالثة قبل أيام هو أيضاً من قبيل تعزير قحت لموقفها حيال الانقلاب الثاني من العسكريين عليها. فقد أزاحها العسكريون من سدة الحكم بانقلاب 25 أكتوبر وهو الطور الأول من الحرب، أو أي مواجهة، في قول علماء الحرب والتفاوض. فتبدأ الحرب في هذا الطور مثل لعبة الشطرنج بهجوم درامي ودفاع. وإذا لم يحقق أي طرف نصراً مؤزراً دخلنا في الطور الثاني من الحرب. ومع نصر العسكريين على الحكومة الانتقالية لقحت في 25 أكتوبر 2021 إلا أنها لا تزال ملء الشارع مع سوء ظنه فيها.
وهكذا لم يكن نصر العسكريين الكبير على قحت مؤزراً. فلم ينجحوا بعد في تكوين حكومة مستحقة الاسم بعد مرور تسعة شهور من الانقلاب. وتقع مليونية 30 يونيو للمرة الثانية بعد ثلاث سنوات من أول قيامها في الطور الوسيط من النزاع. وهو الطور الذي يجاهد كل طرف فيه لتحسين مواقعه على أرض المعركة. وتجد الأطراف في هذا الطور غير راغبة في التفاوض لإنهاء النزاع لأن كلا منها يطمع في تعزيز مواقعه في ساحته ليكون في وضع القوي حين يجلس إلى المفاوضات مع الخصم. وفي هذا الطور الوسيط من النزاع تأخذ العواطف بالألباب فتجعل الأطراف عصية على المساومة. ومن آيات فوران العواطف شعار الشارع قبل قحت “ألا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية” مع العسكريين. فما جلس وفد من قحت مع العسكريين قبل نحو أسبوعين بوساطة نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية والسفير السعودي في الخرطوم حتى قامت عليه القيامة. وأما ركوب العاطفة العسكريين فتمثل في اعتقالات رموز قحت وإطلاق اللسان عن فسادهم. كما لاحقتهم نداءات حلفائهم الجدد ألا يتورطوا في اتفاق ثنائي جديد مع قحت.
واستكمالا لحديث الحرب نأتي على طورها الأخير الذي تتخذ فيه الأطراف طريقين: 1) أن ينقلب الميزان بالكلية لصالح طرف دون طرف يكون له النصر 2) أو أن تنشأ حالة جمود مرهق في الحرب وهو التوقيت لدخول الأطراف في تفاوض لطي صفحة الحرب في حين يظلا يتنازعان حول دقائق التسوية الخاتمة.
بدا للمراقب أن قحت ولجان المقاومة قد استردا مواقع مهمة بمليونيه 30 يونيو. فاتسمت خلافاً لمسيرات سبقتها منذ الانقلاب في 25 أكتوبر بغزارة في العدد وشيوعاً في مدن السودان. وحققت هذا النجاح برغم إغلاق النت والاتصالات والكباري لقطع أوصال مدن العاصمة المثلثة. وهذه الذكرى المعززة للثلاثين من يونيو كسب مأمول أن تستثمره قحت ولجان المقاومة لتحريك ميزان القوى لصالحهما ليخرجا من طور النزاع الوسيط إلى طوره الأخير الذي ينطوي فيه النزاع على حال يؤمن للسودان فترة انتقالية حثيثة نحو الديمقراطية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.