ماذا دهانا؟
كتب: جعفر عباس
.
أكثر ما يحيرني هو ذلك الإحساس بأن اليوم ذا الأربع والعشرين ساعة لم يعد يكفي، لإنجاز الأشياء المراد إنجازها، فصرنا في حالة تحرك دائم، بل و “نزوغ” من أعمالنا الرسمية لقضاء هذا الأمر الخاص أو ذاك، ثم أصبحنا لا نرى بعض الأقارب والأصدقاء إلا في العيدين، وربما هذا ما حدا ببعضنا لتبني مناسبات عجيبة مثل ما يسمى بعيد العشاق وعيد الأم لتبادل التحايا والعواطف، وحتى في عيدي الفطر والأضحى لا يبقى من تحب لقياهم ومسامرتهم عندك أكثر من بضع دقائق، يمدون خلالها أيديهم على عجل إلى طبق الحلوى من باب المجاملة أو أداء واجب ثقيل على النفس، ثم يضعون قطع الحلوى في جيوبهم بدلاً من أفواههم ثم يهبون منصرفين!! وإذا قام الواحد منا بجولة معايدة ووجد خلالها أن عدداً ممن كان يعتزم زيارتهم غير موجودين في بيوتهم يعتبر نفسه “محظوظاً”، ويلتفت إلى من حوله قائلاً: أمورنا اليوم متسهلة، وعندي أمل كبير أن عبد العزيز ومصطفى لن يكونا موجودين في بيتيهما، إلى عهد قريب كانت العادة عندنا نحن السودانيين أن يتم الفتك بخروف الأضحية بعد سويعات من مصرعه، لأن كل صاحب أسرة كان يدعو معارفه من الأشرار أي العزاب (شراركم عزابكم) لتناول الغداء عنده، ولكن ما هو حادث هو أن معظم العزاب صاروا يتعللون بأنهم مش فاضين، كما أن أصحاب الأسر أنفسهم مش فاضين، ويفضلون تخزين اللحم لمُقبل الأيام، بل وهناك من يسمع صوت أحد ضيوفه في الباب فيصبح من مسافة آمنة: أعوذ بالله، هذا إبراهيم ولا أظن أنه سيغادرنا قبل ساعة أو اثنتين!!
أذكر أن ابنتي مروة كانت مثل الممثلات تحتفل بالذكرى الميمونة لمولدها نحو سبع مرات في السنة، وفي كثير من الأحيان كانت تستيقظ من النوم عابسة (حفيدة عباس لازم تعبس) فنسألها: مالك يا مرمر ( هل سمعتم بمرمر أسمر؟) فتقول: عايزة عيد ميلاد، ولأن تجربتي مع مروة علمتني أن اشتري راحة بالي بفلوسي، فقد كنت أهبط إلى أقرب بقالة وأشتري منها كيكة إسفنجية رخيصة ومعها سويس رول وعصائر وعينات من الفاكهة ثم نوقد أي عدد من الشموع فتنبسط، وذات مرة أرغمتنا على أن نحتفل بيوم مولدها وفي غير موعده بكلفة عالية وبمواد فاخرة، وبعد أن جهزنا المائدة رن جرس الباب فركضت وفتحت الباب وكانت تحسبه حارس البناية الذي أرسلناه ليحضر بعض المشروبات وما أن فوجئت بأحد أقاربنا على الباب حتى صاحت: أعوذ بالله… يا للمصيبة، ثم قالت له: تعال بكرة، وأغلقت الباب في وجهه، فصاح فيها: طيب خدي هديتك ثم أغلقي الباب، ففتحت له الباب مجددا، فاخرج لها لسانه متوسطاً المائدة ومروة تكاد “تنفجر”.
حياتنا صارت ما نسميه في السودان شلهتة، أي لهاث يجعلنا ننسى آدميتنا وأحبابنا أحيانا، وقليل الوقت الذي يتبقى لدينا نقضيه مع الحبيب الأمريكي آيفون او الكوري غلاكسي أو الصيني هواوي، وصار أشخاص افتراضيون يحظون بمعظم وقتنا واهتمامنا، ولكننا على الهبشة، وأي “كاني ماني” نأتي بقوالب من الخرسانة الافتراضية ونعمل بلوك/ حظر للصديق الافتراضي.
ويا زمن وقِّف شويه بس جيب بسرعة آخر الشهر والماهية