تجربة السجن
كتب: جعفر عباس
.
تم استدعائي الى مكتب الأستاذ ونجت برسوم مدير مدرسة رمبيك الثانوية التي كنت أعمل بها، ودخلت عليه، ووجدت معه ثلاثة ضيوف، واحسست بأن الحكاية فيها إن، وتقدم أحدهم نحوي بكل أدب وتهذيب وقال لي إنني مطلوب للاستجواب لدى المباحث الجنائية، وفور الخروج معهم من اسوار المدرسة سألتهم: بصراحة، هل اعتقال ام استجواب؟ فقالوا: اعتقال، فطلبت منهم ان يأخذوني أولا الى بيت أخي عبد الله في حي الشعبية في بحري حيث كنت احتفظ ببعض ملابسي، فلبوا رغبتي، وعندما دخلنا الحي رجوت منهم أن يقفوا بسيارتهم بعيدا عن البيت لأنني لا اريد عيال أخي وهم يرونني أحمل حقائبي لأركب سيارة مع أشخاص لا يعرفونهم، فتدور في رؤوسهم الظنون، ولبوا رغبتي عن طيب خاطر، ثم طلبت منهم ان يقفوا بي عند تقاطع المؤسسة في بحري لأشتري بعض الملابس الإضافية، ثم عند بقالة لأشتري سجائر بكميات تجارية، ثم بعض البسكويت، فلبوا رغباتي وقال أحدهم ضاحكا: انت ماشي السجن وللا ماشي رحلة ترفيهية؟ فقلت له انني اعرف انه من غير المسموح للمعتقل بحمل أي نقود ومن ثم اريد إنفاق ما معي منها على أشياء اعرف انني وغيري من المعتقلين نحتاج اليها (واشتريت أربعة أقلام رصاص وغرزتها في شعري الآفرو لعلمي ان الأقلام ممنوعة في السجن).
ثم ذهبوا بي الى مكتب في وزارة الداخلية حيث تم التقاط صور لي، وكان ذلك في أول المساء، ثم قال أفراد الشرطة الذين في المكتب أنني ضيفهم وأن السجن ليس به وجبة عشاء، ومن ثم ف”لازم نعشيك عشوة معتبرة قبل ما تمشي السجن”، وهكذا أتوا بالسمك والكبدة وفتة كوارع، فأكلت حتى طقطقت جدران بطني فصاح الشاويش: يا زول ما بتجيك عوجة في السجن طالما “قلبك ميت”، ونفسك مفتوحة كدا وشايل ليك شنطة التقول ماشي الخارج بعثة.
ثم ذهبوا بي الى سجن كوبر، وكان الضابط المناوب هو النقيب عثمان عوض الله الذي كان يعرفني جيدا، ولكن لم يكن بيده ان يفعل شيئا، فحياني ثم طلب مني احمل “النمرة” وهي عبارة عن برش من السعف ملفوف حول بطانيتين، ثم اصطحبني عسكري الى الغربيات الجديدة، وبداخل سجن كوبر اقسام عديدة منفصلة، منها الغربيات الجديدة والقديمة والشرقيات والبحرية والمعاملة والكرنتينة والمدرسة والمستشفى والسرايا، والغربيات الجديدة مجموعة زنازين هي الإضافة السودانية الوحيدة في السجن بينما بقية المباني تعود الى حقبة الاستعمار البريطاني، وانهارت تلك الزنازين بعد خروجنا من السجن بشهور قليلة، بينما المباني التي شيدت عام 1902 ما زالت صامدة.
فور دخولي فناء الغربيات الجديدة وجدت بها صفين من الزنازين جميعها خالية وقلت في سري: خطير يا أبو الجعافر وفي آي بي VIP وتسكن في حوش كامل لوحدك، ثم جاءت اللطمة حين طلب مني العسكري ان التقط قصرية (نونية) من خلف الحمامات، لأنني سأكون محبوسا في زنزانة!! فقلت له لماذا زنزانة وانا لوحدي في القسم؟ فقال إن ذلك ما تقضي به سياسات السجن، وكان حمل القصرية واستخدامها ليلا هي الإهانة الوحيدة التي تعرضت لها في السجن: حسرة عليك يا أبو الجعافر جاي تحلم بنيل لقب مناضل وفي النهاية عندك حظر تبول وكمان طلعت “نفساء”.
كانوا يفتحون الزنزانة فجرا ليتم تفريغ القصرية والاستحمام والسواك، أما في حالة الزنقات الكبيرة التي لا تتسع لها القصرية فلا سبيل أمامك الا ضرب سيخ الزنزانة والصراخ حتى يسمعك الديدبان وهو العسكري الذي يكون أعلى السور الخارجي فيأتي سجّان ويفتح لك باب الزنزانة كي تذهب الى دورة المياه.
ولنا جولات كثيرة في السجن ان شاء الله..