السجن والانتماء والطعام

0 73
كتب: جعفر عباس
.
اعتقلوني وزجوا بي في سجن كوبر، وكما معظم المعتقلين السياسيين بقيت فيه ثم خرجت دون أن يقول لي أحد لماذا اعتقلت؛ ولكن دخولي السجن في وقت كان أغلب سكانه من الشيوعيين، جعل كثيرين يعتبرونني شيوعيا، ورغم انني لم اكن يوما ما عضوا في الحزب الشيوعي إلا أنني لم أحرص كثيرا على نفي الأمر؛ وربما زاد من احتمال انتمائي ذاك انني كنت كثير الاهتمام بالسياسة منذ سن مبكرة عندما كان هناك مدٌّ يساري قوي في البلاد، وتم فصلي من مدرسة وادي سيدنا الثانوية لأنني كنت عضوا في قيادة اتحاد الطلاب فيها، وطوال حياتي لم أقل كلمة طيبة في حق أي حكومة سودانية مدنية كانت ام عسكرية، ثم تعرفت في السجن على عدد كبير من الشيوعيين واستمرت علاقتي ولا تزال مع كثيرين منهم، وكان الحزب الوحيد الذي انتميت اليه قبل دخول السجن هو المؤتمر الديمقراطي الاشتراكي في جامعة الخرطوم وهو حزب وسطي لم يكتب له البقاء طويلا، ثم وفي سياق معارضة حكومة الكيزان كنت عضوا مؤسسا لحركة القوى الجديدة (حق) بل كنت رئيس الجلسة التي تم فيها إشهار الحزب في لندن، وغادرت الحزب بعد نحو سنتين بعد ان عصفت به بعض الانشقاقات، وحزبي اليوم هو التيار العريض المعارض لانقلاب البراهنة والدقالوة والأراذل، ولست افتخر بعدم الانتماء الحزبي ولكني ك”شاب” لا أجد في الساحة السياسية اليوم تنظيما استطيع ان أقول ان برنامجه “يمثلني” تماما.
المهم زجوا بي في زنزانة في قسم كنت فيه المعتقل الوحيد، أي انني كنت مثل “سيد الحيشان الثلاثة- يا عديلة….”، ثم أتوا بمعتقل جديد ومن فرط “الغتاتة” وضعوه في زنزانة مجاورة، بحيث لا نستطيع ان نرى وجهي بعضنا البعض، وبعد انسحاب العسكر من القسم صحت وسألته عن اسمه واتضح اننا متعارفان، وفرحت بوجود شخص استطيع مبادلته الحديث حتى ولو كنت لا أراه، ولكن صاحبي تبكم بعد دقائق من دخوله الزنزانة، وتوقف عن تبادل الحديث معي فانزعجت كثيرا ثم بعد نحو ثلاث ساعات سمعته يناديني، ففرحت وسألته ما إذا كان بخير، فقال إن كل ما هناك هو انه كان مرهقا وشالته نومة!! صحت فيه: شالتك نومة بعد دقائق من حبسك في زنزانة؟ حرّم السجن ذاتو شوية عليك.
خلال الأيام التالية استقبلنا المزيد من الضيوف وشيئا فشيئا امتلأت جميع الزنازين بالمعتقلين وصرنا نتآنس لساعات طوال، وكان أظرفنا إمام مسجد في الخرطوم جنوب قال انه ربما اعتقل لأنه وفي ختام كل خطبة جمعة كان يدعو الله بأن لا يسلط علينا من لا يخافه ولا يرحمنا (ثم جاء زمن التوم هجو الذي دعا الله قبل حين قصير من الزمان ان يسلط علينا من لا يخافه ولا يرحمنا فاستجاب الله لدعائه وأتانا بالبرهان ودقلو وجميع من لضمائرهم “زقلو”).
كان لكل واحد منا وعاء من الالمنيوم للطعام وآخر معدني صغير للماء والشاي (الى جانب القصرية)، وفي الصباح الباكر يأتي العساكر للتمام (العد) ويحدثون ضجة عالية لأنهم مطالبون بإيقاظ كل معتقل حتى يتأكدوا من انه حي، ثم يأتي فوج آخر ويقدمون لك ثلاثة قطع خبز للوجبات الثلاث ثم بعض الشاي، وبعد قليل يصبون لك بعض الفول في وعاء الالمنيوم، وفي الغداء يأتون لك بإدام ممعن في الركاكة، وفي العشاء لا شيء، يعني تأكل قطعة الخبز الثالثة “حاف”، ثم تم تعيين طبيب انسان وضكران اسمه صلاح الكردي، كان يصف وجبات خاصة لثلاثة اشخاص من بين كل نحو عشرة بحيث يكون هناك بعض اللحم والخضار الخ بحيث يكون الطعام متوازنا، وجميع المعتقلين يكنون للكردي وضابط السجن سمير مقلد احتراما بلا حدود فقد كانا شهمين ودودين (مقلد ترك الخدمة في السجون مبكرا) والكردي أيضا تم نقله من السجن ومارس الطب بعيدا عن تلك الأجواء الكئيبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.