السجن ومجرمون بسطاء
كتب: جعفر عباس
.
أجمل ما في السجن أنك تستطيع ان تقول فيه كل شيء وبأعلى صوت دون خوف من السجن (قياسا على ليس بعد الكفر ذنب)، وفي أول كل مساء كان المعتقلون يصطفون أمام الجدران الفاصلة بين الأقسام، ويحيون بعضهم البعض بصوت واحد، ثم تنفجر الحناجر في جميع الأقسام في توقيت واحد بالنشيد: السجن ليس لنا نحن الأُباة/ السجن للمجرمين الطغاة/ ولكننا سنصمد/ وإن لنا مستقبلا سيخلد/ لنا الغد/ حيث تنصب المشانق لمن؟/ للمجرمين الطغاة.
وكان يتم تكليف محكومين جنائيين مدد سجنهم طويلة بتنظيف أقسام سكن المعتقلين السياسيين، ومن غريب الأمور أننا اكتشفنا ان معظم المتهمين بجرائم قتل كانوا أناسا في منتهى الطيبة والبساطة وليس بينهم من ارتكب جريمته مع سبق الإصرار والترصد: بائع لبن قتل شخصا بضربة واحدة من عكاز لأن القتيل قال له: يا عربي يا باطل.. وذاك ضرب آخر بكرسي حديد على رأسه مما أدى الى موته بعد تلاسن في قعدة مريسة (كان من أطيب السجناء الجنائيين ذلك الذي كان يسمى أبو جنزير وتمت ادانته بوصفه الذي اعتدى على العديد من الناس بجنزير عجلة (دراجة) في عطبرة، واسمه الأصلي محمد ولكن الناس قبل الاعتقال كانوا يسمونه محمد عوارة، وتوفي المسكين في السجن والراجح عند كثيرين انه دخل السجن ظلما فقد برأته محكمة من التهم الموجهة اليه ثم دخل في شجار مع بعض رجال الشرطة واعيد اعتقاله ومحاكمته وصدر ضده حكم طويل بالسجن).
كان يتولى الحلاقة للمعتقلين مصري نظير خمس سيجارات ل”الرأس”، وكان محكوما عليه بالسجن 15 سنة، وقصته إنه أتى الى السودان لأنه سمع ان “الخير فيه باسط”، وصادق تاجر مجوهرات وصار يغشاه في المحل بانتظام حتى كسب ثقته، وذات يوم أتاه بعصير ليمون كارب وملغوم بمادة منومة شربه تاجر الذهب وسقط نائما، ويحكي صاحبنا: كنت شايل كيس كبير وهجمت ع الرفوف والفترينات، وفجأة عينك ما تشوف إلا النور. لقيت جماعة واقعين فيّ ضرب وجا البوليس وآخرتها سجن.. وغلطتي إني خططت لكل شيء مزبوط بس نسيت ان القزاز في واجهة المحل شفاف ودا اللي خلاني انكشف والناس تشوفني وانا بسرق
ولأننا كنا نعمل السجناء الذين يتولون نظافة الأقسام بكثير من الحب والاحترام فقد كانوا يتنافسون للعمل بيننا خاصة وأننا كنا نكلفهم بغسل ملابسنا وندفع لهم المقابل بالسجائر، الذي هو دولار السجن، وذات يوم أتى السجان عبد الحميد وهو شايقي قطيم بمسجون اسمه شريف يقضي مدة بعد إدانته بالسرقة (وكان طوله أقل من متر) ليمارس التنظيف، فقال له شريف: خلوني أجي يوماتي هنا بدل الحرامي محمد (الذي كان يتولى النظافة عندنا بصورة شبه منتظمة)، فقال له عبد الحميد: نان انت مسجون في نفقة؟ ولنفي أنه حرامي حكى لنا شريف حكايته: عشان انا قصير وبعيو، كانت العصابة تضعني في قفة، ثم يذهب أفرادها وهم يرتدون ملابس نظيفة وجميلة مساء الى المحل المراد سرقته ويقولون للتاجر: لو سمحت القفة تقيلة، وعندنا جولة قصيرة في السوق فخليها عندك لغاية ما نرجع، وبكل أريحية يسمح لهم التاجر بذلك، فيذهبون ولا يعودون فيضطر التاجر الى ادخل القفة في الدكان عند الاغلاق والانصراف.. بعد داك انا اطلع من القفة وغالبا اتشعبط في الرفوف وافتح خرم في السقف والجماعة يجو ويخموا البضاعة.. يعني انا ما حرامي.. سمسار بس وعمولتي ضعيفة.. مش حرام يحكموا علي بسبع سنوات سجن؟ وكنت أقول لشريف: في حرامي اسمه ارسين لوبين كان يسمى باللص الظريف،، وانت اللص الشريف.