وترقية أخرى في السجن
كتب: جعفر عباس
.
دخلت مستشفى السجن متصنعا المرض وقدموا لي طعاما جميلا، بعد أن ظللت طوال أسابيع خلال الحبس في الزنازين أتعاطى وجبات سيئة الطبخ والمحتوى، فكان أصبت بنوبة إسهال حادة لازمتني لثلاثة أيام، وما ان استرددت العافية وتأهبت للاستمتاع بالوجبات الفاخرة حتى تقرر نقلي الى قسم الشرقيات، حيث زنازين كبيرة المساحة (هي نفس القسم الذي قضى فيه عمر البشير فترة حبسه الأولى واشتكى من البعوض والذباب)
في أول ليلة لي في الشرقيات كنت أنام في زنزانة مع أحد الزملاء عندما استيقظت على صراخ متكرر، فأيقظت صاحبي وقلت له إن شخصا ما يواجه مشكلة او مأساة تتطلب تنبيه حرس السجن، فقال دون ان يرفع رأسه: انخمد نوم دا زول ح ينفذوا فيه حكم الإعدام بعد شوية، وزنازين الإعدام قريبة من هنا.. فقلت له: واحد من الجيران يواجه الموت وانت همك النوم يا بارد؟ وبعدها النوم “أبى وجافاني وأصبحت داجي ساهر وحتى الطيف رحل خلاني/ وما طيب لي خاطر”، وسبحان الله بينما أنا في ذهول بقية اليوم دخل علينا العساكر ونادوا عليّ مع ثلاثة آخرين، فصاح أحدهم: الظاهر يا إعدام يا إفراج!! وحملنا أشياءنا وسرنا معهم، وتذكرت قصيدة الطلاسم لإيليا أبو ماضي: جئت لا أعلم من اين أتيت/ ولقد ابصرت قدامي طريقا فمشيت/ كيف جئت كيف ابصرت طريقي؟ لست أدري
تخيل ان عساكر يقودونك الى السجن، ثم يدخلون بك ميدان المولد ويتركونك هناك!! هذا هو إحساسي عندما أدخلني العساكر وزملائي الى قسم السرايا في سجن كوبر، والذي يتألف من مبنى ضخم من طابقين، وفور دخولنا فيه وجدنا أنفسنا محاصرين بنحو 200 معتقل يرددون الأناشيد حتى حسبت أنني فعلا في ميدان المولد، فالانطباع الأول لمن يدخل السرايا لأول مرة هو أنك في مكان “كُتُر” فلا شيء فيه يوحي بأنه سجن، ففي واجهة المبنى فناء واسع وفي أحد طرفيه مسجد أنيق يقابله من الجهة الأخرى مسرح حقيقي، وبسبب الكثافة السكانية كانت هناك خيمة كبيرة جوار المسرح يقيم فيها شباب المعتقلين.
في السرايا تنسى أنك في سجن، فاليوم كله محاضرات وندوات ودروس في اللغات وألعاب ورق وشطرنج مصنوع بمهارة من الصابون، والأمور كلها مرتبة من قبل لجنة المعتقل، وبحكم أنهم أغلبية فقد كانت اللجنة تتألف في معظمها من الشيوعيين، وكان الشيوعيون يتصرفون في السجن كأنهم “أسياد بيت”، ويتولون التنسيق بين اقسام السجن بل مع السجون في المدن الأخرى، وكان أهم شخصيتين في حرس السجن هما الصول لوج وشاويش رشاد وكلاهما من جبال النوبة وكانا مهذبان ومرحان وفي نفس الوقت منضبطان وكان المعتقلون يتعاملون معهما بكل احترام.
ونحن نعيش في أمان الله، طالبت لجنة المعتقل بأن يتم تقديم مواد الطعام لنا “خام” لنتولى نحن طبخها، فقلت لمن هم حولي: الجماعة ديل ح يقولوا لي طالما انت محسي تكون رئيس الطباخين!! المهم ان إدارة السجن رفضت الطلب فأعلنت اللجنة الاضراب عن الطعام، وكان الاستثناء من الاضراب فقط لمن يعانون من الأمراض المزمنة، وهكذا شاركت في الاضراب، وفي اليوم الثاني منه كانت بطني قد عافت حتى الماء، وكنت أبادل الحديث أحد الأصدقاء عندما دخلت في شبه غيبوبة، ثم صحوت ووجدت رأسي مستندا الى كيس خشن الملمس تفقدت محتواه ووجدته “سكر” فأخذت منه لحسة صغيرة فتكهرب جسمي كله، فتغطيت جيدا ببطانية وأخذت لحسة “معتبرة” وأحسست كأنني أكلت نصف خروف، بعد أن سرت طاقة عجيبة في جسمي، ورفعت رأسي، وصحت: ليكن الاضراب عن الطعام لشهر كامل ونشوف مين فينا يتعب، وأراد الله لي الستر فاستجابت إدارة السجن للمطلب وتم رفع الاضراب.
وعمت الأفراح، ولكن لجنة المعتقل النكدية كانت قد عقدت العزم على إهلاكنا (وإلى حلقة الفضيحة الكبرى غدا ان شاء الله).