اليزابيث الثانية: تحية في يوم وداعها

0 69
كتب: المحبوب عبد السلام
.
مجدت الحضارة الانسانية الرمز وحفلت به فى ترقيها الصاعد، من زمن الخرافة المظلم عبر الطوطم والتابو ليكون معنىً معاصراً لدولة حديثة، فالملكية الرمزية مثل العلم والنشيد الوطني هي رمز معنوي جليل لاجتماع الشعب ووحدته، اذا انبسطت البلاد وكان وطناً شاسعاً أهدى اليها تطور أنظمة الحكم الفيدرالية، النظام الاتحادي الذي يوزع السلطة والثروة ولكنه نصحها بالنظام الرئاسى الذى يجمع السلطان لدى رئيس هو من وجه مهم رمز وحدة البلاد. فإذ ضاعت عائلة ونزور زمناً من البريطانيين جدوا في السعي حتى عثروا عليها ونصبوهم ملوكاً لبريطانيا التي هي مملكة متحدة من ممالك كانت قويةً باطشةً فى التاريخ ولكنه ترقى الإنسان نحو الحرية والسلام، طريق الروح وسبيلها الحتمي، لتكون رمزاً يوحدهم قبل أن تكون ملكاً يبطش بهم.
لسبب ما التقى قدر السودانيين بالبريطانيين، كان متاحاً لحملة نابليون أن تنداح جنوباً قليلاً وتأخذ جزءاً كبيراً من السودان الشمالى وقد بلغت بالفعل الشلال السادس، أو كان يمكن لحملة فشودا أن تنزلق شمالاً فتبلغ وسط السودان ويغدو السودان جوهرةً فى تاج الفرانكفونية، ولكن جاءنا البريطانيون بغير تدبير كبير حركته حادثات التاريخ واحنه، لكن دفعه الحق جاء من منطق العلاقات الدولية يومئذ فالقوي ينداح ويأخذ الضعفاء دون شفقة، وهو منطق قديم قبل فتوحات المسلمين وحتى الظاهرة الاستعمارية في القرن الثامن عشر، صحيح أن المسلمين لم يأخذوا ذهب الهند إلى لندن ولكن أثرت المدينة بالفتوحات وثمرات أراضى السواد، رغم اجتهاد خليفة ذو حس تاريخى لا يضاهى، فقد طفق ابن الخطاب يجادلهم في أراضي السواد وهي أخصب أراضى العراق أنها ليست لهذا القرن من المسلمين ولكن لهم ولأجيالهم القادمة وأنهم ما أوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ولكن البيزنطيين هربوا وتركوها لجيوش المسلمين. لم يعجب منطق الخليفة قبائل اليمن حديثة عهد بالإسلام طويلة العهد بمنطق الغنيمة وظلت تلاحقه حتى قتل فنالوها من الخليفة التالى. كما انه صحيح أن الظاهرة الاستعمارية جاءت فى ذروة الفتح العلمى ولكن فتوحات الروح لما تبلغ عهد تحريم الرق والشرعة الدولية لحقوق الإنسان والعهد الدولى للحقوق والحريات، لم يصب الاستعمار وغلوائه المثقفين السودانيين الأوائل الذين عاصروه وورثوه بالفصام، كان نظرهم عميقاً إلى جذر التاريخ ومتجاوزاً إلى ما بعد فظائع الاستعمار، فامتد بنظرة الشاعر الفذ محمد المهدى المجذوب لا تحجبه نيران الحرب الكونية في أن يراها طارئ من خبل القديم ولا تصم سمعه أصوات هيروشيما وأن تجلى الروح الانسانية لن يوقفه جنوح ديكتاتور مثل هتلر وموسوليني وسلالتهم من المستبدين الصغار فكتب تحت ضوء نار المجاذيب : أيكون الخير في الشر انطوى
والقوى خرجت من ذرة هى ملئ بالعدم
أتراها تهزم الحرب وتنجو بالسلم
وتعود الأرض حباً وسلاماً
سوف ترعاه الأمم
عندما إندلعت ثورة أكتوبر السودانية المجيدة وانتصرت فى بضع اسابيع كانت الملكة اليزابيث الثانية قد شرعت في زيارتها الأولى لأفريقيا بعد عقد من توليها العرش، كانت فى أثيوبيا الجارة القربية تنعم بضيافة الامبراطور وقد بلغت النذر والنصائح أن السودان فى ثورة وفوضى وعليها أن تلغى الزيارة دون تردد، فكيف تدخل الملكة الى بلد أطاح بجنرال هو قائد الجيش ولما يخرج من صدمة الانتقال، ولكن أولئك السودانين لم يكونوا مثل هؤلاء سرعان ما جمعوا أنفاسهم ورتبوا أمرهم وأكدوا أن كل شئ على ما يرام لزيارة الملكة، كانوا فى زمان شاعرى جمره عنده ذوق كما يقول عاطف خيرى، ولا ريب أن الملكة إستعادت قصصاً من فرادة السودانين واختلافهم ظل أصدقاء السودان من البريطانيين يرددونها و وجدت من يعينها على إعادة النظر فى تلك النذر والنصائح وأن السودانيين إذا قالوا صدقوا فقررت الملكة أن تطرح كل ذلك جانباً وأن تأتى الى السودان.
إستقبل الملكة واحد من عباقرة الزمان ومن علماء السودان الأفذاذ الموسوعيين الدكتور التيجانى الماحى رئيس مجلس السيادة عندما كانت السيادة كذلك رمزاً بالغ الدلالة يتولاها الكبار ، وعندما ضاقت جنبات المطار وامتلأت الشوارع بالسودانيين لاستقبال المونارك الذي كان يستعمرهم قبل بضع سنيين، بدى الحس الجماعي كله وكأنه أكبر من حادثات الزمان وأوسع من القرن العشرين، وبدت الخرطوم أكثر سلاماً وأقل ثورةً، وعندما إحتفى بالملكة مجلس وزراء الحكومة الانتقالية على سطح باخرة نيلية تمخر عباب النيل، وتوزعت كاسات الشاى بذات التقاليد الانجليزية يطوف عليهم رصفاء الفندق الكبير بجلاليبهم الواسعة وحركتهم المنضبطة، طفق أصحاب الحقائب يعرفون أنفسهم وقد ضجت الملكة بالضحك عندما قدم لها وزير الصناعة الأستاذ أحمد سليمان المحامي نفسه بفكاهته النادرة : احمد سليمان ممثل الحزب الشيوعي لجلالتكم)، قال مرافقو الملكة لاحمد سليمان لم نر الملكة أبداً تضحك فى محفل عام بهذه الطريقة.
البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز وقد فتحوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم، تلك كانت سفن مصطفى سعيد فى موسم الهجرة ولكن الباخرة النيلية التى حملت الملكة فى ضيافة حكومة أكتوبر الانتقالية كانت غير تلك فقد تبدل الزمان والمكان وأضحى السودان بلداً حراً يحكمه أحرار، لم تكن المعارضة الوطنية يومئذ تلجأ إلى السلاح كما حدث لاحقاً فى تسعة عشر بلداً أفريقيا بعد أن نالت استقلالها من المستعمر وصارت الحكومات الوطنية المستبدة كأنها الاستعمار وأضحت المعارضة كأنها حركات تحرير، وكما حدث فى السودان بعد عقد ونيف من حفل النيل البهيج دخلت الجبهة الوطنية الخرطوم فى يوليو ١٩٧٦، غزتها بلغة اعلام النظام المستبد يومئذٍ وخلع على الذين يسمون أنفسهم مقاتلو الحرية لقب مرتزقة، تبدلت النسب وظلت النسبية تسود تهدهد روح اينشتاين في برزخها وقليل من المتحمسين يمكن الثقة بهم كما يقول نابليون. بل إن صاحب الموسم نفسه فى رحلته الطيبة الصالحة لم يلق موقفاً صعباً كمل لقيه ساعة تقدم غالب العرب العاملين بهيئة الإذاعة البريطانية باستقالاتهم إحتجاجاً على العدوان الثلاثى على مصر ، لكن الطيب فكر وقدر وقرر البقاء ينافح عتاة المحررين والإداريين بالصرح الاستعمار العتيد الذى يفاخر به البريطانيون كأعظم إنجازاتهم هيئة الاذاعة البريطانية، صمم الطيب صالح ومعه ثلة ألا يغادروا موقف الحياد والمهنية فى محتوى الخبر والتحليل وفى صياغته، بدلاً من المغاضبة والمغادرة، الصمود والمجادلة والمفاعلة أسلحة ووسائل لا يقدر عليها إلا أولو العزم، ورغم أن الحكومة صاحبة الإذاعة هي أحد أضلاع المثلث وفي حالة حرب ظلت تزدرد جمر المهنية والموضوعية ولا تقوى على إتخاذ إجراء تؤذى من حدوها بمبادئها وفلسفتها في خدمة الجمهور بالصدقية دون المبالغة أو الدعاية. موقف قريب مما ظل يزاوله مفكرٌ مناضل آخر هو الدكتور إدوارد سعيد، فما أيسر اللاءات الثلاثة أو الاربعة فى أيّما موقف وما أصعب المدافعة لا سيما الفكرية، كان سهلاً أن يقطع مع الكيان المغتصب كما أدمن المزاودة كثيرون فى القضية الأصعب فى التاريخ المعاصر بدلاً من محاورتهم ومواجهتهم بالحقائق، وفى لحظة صعبة ظل إدوارد سعيد يجابه القيادة الفلسطينية ويواجه الصهاينة، يعمل آلة فكره الناجزة فى تحليل الاحتلال ولا يترك حتى موهبته الموسيقية الفذة دون معركة شعبه، لم ينكر المحرقة ولكنه عزف موسيقى فاغنر مع اوركسترا فرانكفورت واحرج الإسرائيليين بالغاء الحفل بحجة واهية تتهافت أمام العالم الحر هى أن هتلر كان يسمع موسيقاه.
زارت الملكة الخرطوم فى أكتوبر ١٩٦٤ رغم أن أول قرارات الحكومة الوطنية هو رفض الانضمام الى مجموعة دول الكومنولث التى ضمت مستعمرات بريطانيا السابقة ولم تزل، ورغم أرتال من المبعوثين ظلت تحج الى المملكة وتعود بالتخصص والشهادات والألقاب بفضل المنح الدراسية، فقد حرم السودان من ثمرات أخرى كثيرة خاصةً فى التعليم، وظل السودانيون يرتادون دولاً كانت أختنا فى الاستعمار ويلقون في نيروبى باركليز وسنجر وباتا وموبيل أويل وشل وتخنقهم عبرة الحنين إلى تلك الأيام تلك الأيام تحلى جيد الخرطوم تلك الأسماء وقد اضحى عاطلاً.
لا ريب أن كثيرين كابدوا ذلك الموقف الذي وصفه الصديق العزيز جعفر فضل فى نعيه المؤثر للملكة الراحلة ساعة تأدية قسم الولاء لنيل جنسية بلد آخر رغم أنهم لا يلزمونك بالتخلى عن جنسية الوطن الأم الذي لا ينفك يشعرك بنداء عميق لا يدانيه نداء، نداء مسقط الرأس، ورغم أن كثيرين لم يغادروا بلادهم طوعاً ولكن (طردونا وعبرنا النهر للضفة الأخرى فإذا نحن على الدرب صعاليك وأبناء سبيل) كما يقول صلاح احمد ابراهيم الشاعر الفذ الذى ظللنا نهرع إليه كلما تعنت سودانى فى رفض الجنسية الفرنسية وقد استحقها بالزواج وجلب العنت لزوجته وأطفاله، كان الشاعر يقنع بمنطق بسيط ومباشر، أن هذه الجنسية التى تنالها ستنفع أول ما تنفع السودان، رغم أن صلاح نفسه ظل ممسكاً بنداء الميلاد إمساك يحى الكتاب وقد جرده نظام النميرى من جوازه السودانى ولا يتقدم لنيل الجنسية الفرنسية كآخر علامة فى رفض الاستبداد، وكذلك ظل الطيب صالح ممسكاً بجوازه السودانى لا يشرك به كجمر الغضا، ولكن قريباً ستعود أجيال من السودانيين ممن نالوا تلك الوثائق بسقوط الرأس لا بالتجنس يشدها ذلك النداء كما شدّ ابائهم اماتهم وهم أكثر عالميةً وعلماً وأكثر وطنيةً أيضاً، وستنقشع عقدة المستعمر وتنسحب من شروط تولي الوظيفة فصمة حملة الجنسيات الاجنبية وستعود الأرض حباً وسلاماً سوف ترعاه الأمم.
.
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏وقوف‏‏

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.