اليسار المصري بين الحوار الوطني وسردية الخطر
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
تبدو النقاشات الراهنة للعديد من الأحزاب السياسية والشخصيات العامة الممثلة لليسار المصري، إن المندرجة في إطار الحركة المدنية الديمقراطية أو القريبة من النقابات والمنظمات غير الحكومية، أسيرة لسردية خطر متعددة المضامين.
تتواتر في ثنايا أحاديث اليسار عبارات من شاكلة «مصر في خطر»، «الوطن يمر بمنعطف شديد الدقة»، «نجتاز مرحلة فارقة»، «نقود السفينة في بحر هائج مليء بالعواصف»، «مجتمعنا وحياتنا واقتصادنا تحت التهديد»، «الوضع السياسي لا يحتمل التأجيل»، وغيرها الكثير من العبارات التي تنقل إدراكا عاما بمرور مصر بلحظة أزمة في تاريخها المعاصر تستدعي الشروع الفوري في حوار وطني حول أولويات بلادنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
مثل هذه العبارات، وإن كانت ليست بالغريبة عن القاموس السياسي لليسار المصري، يتعين التوقف أمامها بسبب عمومية استخدام رمزية الخطر والربط التبريري بينها وبين حتمية إدارة حوار وطني في 2022 يستهدف البحث في تحصين البلاد. والسؤال المركزي هنا هو هل يقربنا الدفع بالخطر من صناعة الانفتاح السياسي الذي يبتغيه اليسار من المشاركة في الحوار الوطني؟ أم هل يتطلب الانفتاح السياسي سياقا مجتمعيا بخصائص مغايرة؟
والحقيقة أن الدفع بسردية الخطر كمفسر للدعوة إلى الحوار الوطني وكمبرر لمشاركة اليسار يصطنع لمصر، مواطنين ومجتمعا ودولة، حالة من الاستثناء تتناقض جذريا مع الانفتاح السياسي والأهداف الإصلاحية المرتبطة به. إزاء الخطر تستحيل مسألة الانفتاح مجرد استراتيجية مؤقتة لخروج مصر من أزماتها الراهنة وبعدها يمكن العودة إلى البيئة المغلقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي سادت خلال السنوات الماضية.
المفارقة هنا هي أن هذه الاحتمالية، احتمالية النكوص إلى الوراء في أعقاب الخروج من الأزمة، تمثل الخوف الأكبر لدى اليسار المصري الذي لا يريد للحكومة أن تتلاعب به بالتوظيف المؤقت لمشاركته بغرض اصطناع واجهة إصلاحية إلى أن تحلحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية (بأبعادها المتعلقة بالدين الخارجي وخدمته والسيولة المالية والأمن الغذائي ومعدلات التضخم المرتفعة) وتفكك بعض الملفات السياسية (كالحبس الاحتياطي ومعتقلي الرأي) ثم يتم إقصاؤه كما حدث في مراحل سابقة في العلاقة الطويلة والمعقدة بين حكومات مصر ويسارها منذ 1952.
هل يقربنا الدفع بالخطر من صناعة الانفتاح السياسي الذي يبتغيه اليسار من المشاركة في الحوار الوطني؟ أم هل يتطلب الانفتاح السياسي سياقا مجتمعيا بخصائص مغايرة؟
المفارقة، إذا، هي أن مدخل الخطر الذي يقارب به اليسار الحوار الوطني يجعل من احتمالية التلاعب الحكومي بمشاركة اليسار أشبه بالنبوءة ذاتية التحقق. بل هو يباعد بين البلاد وبين التأسيس لمبادئ الحوار والانفتاح والإصلاح في الوعي العام كمقومات النهج العقلاني للإصلاح وتصحيح مسارات حركة مصر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في الحاضر والمستقبل.
ولا يقل أهمية في باب تفكيك مدخل الخطر المسيطر على قراءة اليسار للحوار الوطني تحليل خبرة عدد من المجتمعات المعاصرة في شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية والتي تظهر بجلاء حقيقة تزامن بدء عمليات الانفتاح السياسي والإصلاح، بل والتحول الديمقراطي، مع ذيوع رؤية إيجابية وتفاؤلية للحاضر والمستقبل في المجتمعات المعنية. مثل تلك الرؤية تركز على إمكانات التغيير لحياة أفضل، ليس درءا للأخطار أو تعاملا مع الأزمات وحسب، بل لحاقا بروح العصر وأملا في التقدم.
فلم تكن لحظة نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين في أوروبا الاشتراكية السابقة، على سبيل المثال، معبرة عن انتفاضات مفاجئة لشعوب خشيت على وجودها إن بحكم عوامل خارجية (الصراع مع الغرب) أو داخلية (الجمود المجتمعي والسياسي الشامل)، بل عن دينامية قوى وتنظيمات مجتمعات رغبت في المزيد من الرقي من خلال إصلاح مسار تطورها السياسي (الحريات المدنية) والاقتصادي (التحول من سيطرة الدولة على الاقتصاد إلى اقتصاد السوق والقطاع الخاص). وكذلك كان حال مجتمعات أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين وبعض مجتمعات شرق إفريقيا (كينيا مثالا) وغربها (غانا نموذجا) التي نظرت إلى المستقبل آملة في حياة أفضل واقتصاد حر وسياسة تعددية ولم تقع أسيرة سردية الخطر. تاريخيا، لم تنتج اللحظات الاستثنائية إلا بدايات أو ردات غير ديمقراطية.
ويمكن في هذا السياق، وللتدليل، استدعاء أفكار الفيلسوف وعالم القانون الألماني كارل شميت (1888/1985) الذي شكلت كتاباته خاصة كتاب «اللاهوت السياسي» (الصادر في 1922) تبريرا معرفيا لوصول النازية إلى سدة الحكم في ألمانيا ثلاثينيات القرن الماضي.
يتحدث شميت في اللاهوت السياسي عن لحظة استثنائية هي «لحظة تهديد لوجود الدولة وللنظام المجتمعي على أرضية اختلال الأنساق القيمية والأخلاقية والدينية، ويرى أن فقه لحظة الاستثناء هو حق البطل المنقذ أو البطل الأوحد في الإدارة الشمولية للمجتمع وإعادة التأسيس الديكتاتوري لمعنى القانون والصالح العام دون الرجوع إلى أحزاب سياسية أو قوى اجتماعية أو نقابات ومجتمع مدني. أهذا ما يريده ويبحث عن اليسار المصري من خلال مشاركته في الحوار الوطني في مصر 2022؟
ليس مدخل الخطر بمقدمة للانفتاح السياسي أو للإصلاح والتحول الديمقراطي، بل هو عنوان خوف وضعف وتشاؤم بحال البلاد لا يصلح للتفكير في التنمية والعدل والحرية.