حول الميثولوجيا الإخوانية

0 65

كتب: بابكر فيصل بابكر

.

من السمات الرئيسية للآيدولوجيا أنها تزود معتنقها بقناع يحجب عنه رؤية الحقيقة المجردة كما هي، ويخلق له واقعاً بديلاً (خيالياً) يعيش فيه وذلك عبر تطوير خطاب يشتمل على أدوات عديدة لحجب الحقيقة وإحلال الصور المرغوب فيها، وتمثل حياكة الأسطورة إحدى تلك الأدوات المستخدمة في تزييف الواقع.

وتشكل صناعة الأسطورة حول القائد الملهم والزعيم الخالد أحد المحاور المهمة التي تشتغل عليها دعاية الآيدولوجيا في تزييف الحقيقة المرتبطة به، حيث يتم نسج القصص الخيالية التي تُظهر بطولاته وتمجد أعماله وتمنحه قدرات خارقة لا تتوفر للبشر العاديين.

وبما أن العقيدة الدينية تنبني على أساس إيماني ماورائي، فإن الآيدولوجيا المستندة إلى الدين تعمل على الإعلاء من مكانة القيادة (المرشد) عبر ربطها بأبعاد متعالية بهدف إحاطتها بهالة من القدسية يُعتقد أنها تعضد من مصداقيتها وتؤكد شرعيتها.

وبمرور الزمن تنمو وتتشعب تلك الماورائيات وتكتسب نوعا من القداسة فيصبح من غير المقبول أو الممنوع تناولها بالنقد أو النقاش. وإذ تتحول الأساطير إلى ثوابت وبديهيات، فإنه يتم استخدامها لتقوية تماسك الجماعة وتأكيد الطاعة المطلقة للقيادة وتعزيز الثقة الكاملة فيها وبما يمنع التشكيك في أي قول أو فعل يصدر عنها.

من أمثلة هذه القصص المتعالية ما كتبه المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، في مذكرات “الدعوة والداعية” صفحة 41 تحت عنوان “رؤيا صالحة”، يروي فيها أنه كان يهم بالجلوس لامتحان في النحو والصرف لم يكن مستعدا له بشكل كاف، وبينما هو نائم في ليلة الامتحان وقع له حلم عجيب يقول عنه:

(وإن من فضل الله تبارك وتعالى أنه يطمئن ويسكن نفوس عباده وإذا أراد أمراً هيّأ له الأسباب فما زلت أذكر أن ليلة امتحان النحو والصرف رأيت فيما يرى النائم أننى أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا الهوينى فى نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان فى زي علماء الصعيد، وقال لى: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا، فقال: تعالَ نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات عينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحاً مسروراً، وفى الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات، فكان ذلك تيسيراً من الله تبارك وتعالى، والرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن والحمد لله رب العالمين ).

نحن هنا بإزاء طالب لم يستطع تحصيل دروسه بالشكل المطلوب في الواقع (عالم الشهود) فأرسل الله له في المنام (عالم الغيب) علماء فضلاء قام أحدهم بمراجعة صفحات معينة من شرح ألفية إبن عقيل معه، ولما جلس للامتحان وجد الكثير من الأسئلة تدور حول ذات الموضوعات التي راجعها معه ذلك العالم الفاضل في الحلم!

غير أن الأسطورة لا تتوقف عند هذا الحد، فمع مرور الوقت يتم تجويدها بإضافة بعض اللمسات و التفاصيل التي تمنحها مزيداً من القوة الماورائية، ومن ذلك ما كتبه عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان، محمود عبد الحليم، في كتاب “الإخوان المسلمون .. أحداث صنعت التاريخ” ص 57- 58 حول ذات القصة، حيث يقول:

حسن البنا
(وقد رأى “حسن البنا” أن يواصل دراسته فدرس دراسة خاصة للالتحاق بدار العلوم، وقد اضطره ذلك إلى الانتقال إلى القاهرة حيث كان مطالبا بالعمل لكسب عيشه فالتحق بعدة أعمال منها أنه أشتغل عاملا في محل للبقالة، ولقى في ذلك ما لقى حتى أنه لم يكن يجد وقتا يستذكر فيه دروسه، ولما حان موعد الامتحان المؤهل لاإلتحاق بدار العلوم نفسها، وجد أن مطالب الحياة الضرورية لم تدع له وقتا تؤهله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان، فشكا إلى الله الذي يعلم أنه لم يقصر لحظة واحدة .. يقول رحمه الله : ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلا يواسيني ويقول لي : التفت إلي فالتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التي سأمتحن فيها في الصباح فيفتح الكتاب عند صفحة معينة ويشير إلىَّ أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني، فلما أصبحت وجدتني حافظا كل ما قرأت – وكانت هذه طبيعتي أن أحفظ ما أقراه – ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هي نفس ما قرأته في الرؤيا .. وهكذا مرت ليالي الامتحان وأيامه على هذا النحو وظهرت النتيجة فكنت الأول . والحمد لله).

الرواية أعلاه تختلف في تفاصيلها عن رواية البنا، ولكن المهم فيها أن الرجل الذي جاء ليواسي الأخير في منامه كان يحمل الكتاب (مادة الامتحان) في يده وهو يعلم الصفحات التي ستأتي منها الأسئلة بدقة، وكان البنا يحفظ الصفحات التي يشير إليها الرجل عن ظهر قلب وهو مستغرق في النوم، والأهم من ذلك أن الرواية توحي بأن البنا ظل يحلم بأسئلة جميع الامتحانات (وهكذا مرت ليالي الامتحان وأيامه على هذا النحو) وفي كل مرة يجد الأسئلة التي حفظها في الحلم فيجيب عليها حتى أحرز المرتبة الأولى والتحق بدار العلوم!!

وفي عام 1992 تعرض الزعيم الراحل لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، الدكتور حسن الترابي، لحادث اعتداء من قبل مواطن سوداني في مطار “أوتاوا” بكندا التي زارها ضمن جولة لأوروبا وأميركا.

وقد أدى الحادث لإصابة في الرأس أدخلته في غيبوبة استوجبت متابعة حالته في غرفة العناية المركزة بالمستشفى، وقد روى أحد مرافقيه من أعضاء الجماعة، أحمد عثمان مكي، تلك اللحظات العصيبة وقال في الخبر الذي أوردته صحيفة “السودان الحديث” في عددها رقم 934 الصادر في 1 أغسطس 1992 أنه:

حسن الترابي
(اكتشف شيئا جديدا في شخصية الترابي بعد أكثر من (25) عاما من الرفقة خلال هذه الرحلة الطويلة. وأوضح أنه أحس قبل محاولة الاعتداء بليل حالك في صدره شيء فطلب من الشيخ الترابي أن يبيت في فراشه ويستبدله هو في فراشه وتوسل إليه أكثر فرد عليه الشيخ قائلا : والله لو اجتمعت الدنيا كلها لما فعلت ذلك .. وأضاف الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، وكشف النقاب عن أن أخصائي جراحة المخ الكندي الذي قام بفحص صور الأشعة المأخوذة من رأس وعنق الدكتور الترابي قال له : لقد مارست مهنة جراحة المخ ردحا من الزمان .. ولكن ولعلها المرة الأولى التي أرى فيها عقلا بشريا نظيفا مثل هذا المخ).

من الجلي أن الرواية أعلاه تحاكي القصة التاريخية المشهورة عندما تآمر كفار قريش على اغتيال الرسول الكريم، فأمره الله بالهجرة, فطلب من علي بن أبي طالب أن يبيت في مضجعه حتى يخفي عنهم أثر هجرته. ومن ناحية أخرى فإنه لا يُعرف كيف يمكن أن يكون هناك عقل بشري نظيف وآخر متسخاً!

وقد سار أحد شباب الجماعة المقربين للترابي، ويدعى الدكتور محمد الأمين، في نفس الاتجاه أعلاه وقال عن ذات الحادثة:

(الطبيب الكندي الذي عالج الدكتور الترابي البروفيسر دا سيلفا (حسب ما أذكر) جن جنونه حين استيقظ الترابي وقام من غيبوبته ووجد أنه استعاد ملكاته الدماغية والتعبيرية باللغة الإنكليزية كان يقول هاتفا : إنها معجزة، وتنازل عن رسومه وكانت قرابة الـ 60 ألف دولار وكتب خطابا بالمعني وأنه سيسعد في المستقبل بمتابعة أو مراجعة حالة الترابي إن احتاج الأمر مستقبلا لأنه لم يرى مثلما رأى).

أما سفير السودان لدى روما إبان فترة حكم الجماعة، عبد الله محمد أحمد، فقال إنه سأل الترابي عن الحادثة وكان من ضمن إجابة الأخير القول التالي:

(أبوح لك بسر لم أحدِّث به أحدا.. إن ما حدث أوْقدَ ذاكرتي فأصْبحت ـ والشكر للّه ـ أوْسعَ وأسرعَ تلقّياً وطرحاً من الانغماس في شؤون الحياة الدنيا وسياساتها المتعكرة، وأشعر ـ الآن ـ أن ما حدث كان حكمة إلهية نَشَّطَتْ عقلي وذاكرتي، ولهذا فأنا سعيد بما حدث)!

وهكذا، فمن الواضح أن الجماعة لا تتورع عن إضفاء هالة من القدرات الخارقة على قياداتها، وهى في ذلك تستخدم الأبعاد الغيبية التي تتضمن التواصل مع السماء عبر الأحلام أو عن طريق استلاف القصص الإسلامي الذي يستلهم الوحي، والهدف من إبراز هذه الصيغ المتعالية هو في كل الأحوال تكريس قيم الطاعة والثقة والانقياد داخل الجماعة فضلا عن تأكيد دعم السماء للإخوان وقيادتهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.