الحزب الشيوعي والجذرية الوطنية فيما بعد الحرب العالمية الثانية: في ميلاد عبد الخالق محجوب الخامس والتسعين (الأخيرة 😎

0 79
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
الجنيد على عمر: من الحزب الجمهوري إلى حستو إلى حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) المصرية
مثلت علاقة الجنيد علي عمر، عضو مركزية الحزب الشيوعي في الخمسينات، أميز التقاطعات بين الحركة الجمهورية والحزب الشيوعي الذي كان يتخلق بعضه في داخلها. فكان الجنيد أول عهده بالسياسة عضواً بالحزب الجمهوري بمدينة مدني. وما أضرب المزارعون في ١٩٤٦ حتى انتدبه الحزب ليقف على تطورات الإضراب والتقرير عن قضاياه.
لم يكد محمود يخرج من السجن ليقضى فترة نقاهة في مدينة رفاعة حتى التفت إلى إضراب المزارعين من حوله في مشروع الجزيرة. فكتب لأمين صديق في ٢٧ يوليو ١٩٤٦ عن خبر الإضراب الذي ثار حول ما عرف ب”مال الشدة أو الاحتياطي”. وهو مال اقتطعته الشركة الزراعية من المزارعين بغير إرادتهم في ملابسات ما بعد الأزمة الاقتصادية في ١٩٢٨ لتتلافى، متى ما طرأ طاري أزمة أخرى، الخسائر التي تكبدتها في الأزمة المضت.
وكانت الحرب العالمية الثانية زجت بالمزارعين في ضائقة معيشية ألجأتهم للشركة لتتلافاها بمال الاحتياط. وذكر محمود لأمين اعتصام خمسة وعشرين ألف مزارع بمدني لتعزيز مطلبهم بصرف مستحقهم من مال الاحتياط الذي بلغ مليون وربع جنيه.
ونقل محمود لأمين، من باب الحض على ضرورة العزيمة الوعرة لحرب المستعمرين، صوراً باسلة من ثبات المزارعين عند حقهم. فجماعة منهم مرت بمزارع خرق الإضراب فنزلوا فردموا دوراناً (جدول أبو عشرين) لقطع الماء عنه. فشكاهم على الحكومة فأمرت بحبسهم. ودافعوا عن أنفسهم بالتزامهم جميعاً بالإضراب” قائلين “يحزمنا حبل ويقطعنا سيف”. واستنكرت جماعة من أهل المعتقلين سجنهم فاقتحموا صحنه يريدون أن يكونوا حيث أخذوا رفاقهم. فاضطرت إدارة السجن لإخلاء سبيلهم جميعاً.
كما نقل محمود لأمين صوراً بائسة عن أوضاع المزارعين حسب ما أطلعه عليها واحد منهم. فمنهم من يستلف ملابس الآخر للمناسبات في حين تبني الحكومة الأندية والاستراحات بالطوب الأحمر من مال الاحتياطي، وتهمل المزارع الجائع. كما نقل لأمين خبر اجتماع مندوبي المزارعين في 27 يوليو مَثّل كل قرية فيه مزارعان. وتعاهدوا فيه إن لم يلقوا حلاً مضوا للخرطوم. وكان مطلبهم صرف أربعمائة ألف جنيه نصفها عاجل في سبتمبر ١٩٤٦ والآخر آجل إلى ديسمبر منه. وبعثوا بتلغرافات بمسألتهم إلى الخرطوم ولوفد الأحزاب السودانية في مصر الذي تقدم ذكره. وكلفهم البريد عشرة جنيهات كلفة أفرغوا جزالاينهم بفدائية ليجمعوها. وجاء محمود بقائمة قصيرة بأسماء مندوبين ليبرقهم الجمهوريون مؤيدين نضالهم. وختم رسالته لأمين مشدداً على وجوب قيام الحزب بنصرة المزارعين:
“إن تأييد موضوع المزارعين أهم عمل تقومون به وهو مستعجل جداً، فأرجو أن يكون موضع اهتمامكم الأول”. ووجههم أن يكونوا مع المندوبين متى جاؤوا للخرطوم وإثارة مسألتهم بالخطابة في كل مكان.
فاشتغل الحزب بالمسألة. فأبرق الحزب مؤيداً حركة المزارعين جاء فيها ألا يظن المزارعون أن ظلامتهم هي لهم خاصة لأنها ظلامة الشعب السوداني بأسره. ولن يجدوا من يقول: “اذهب أنت وربك فقاتلا لكنكم واجدون من يقول لكم: “والله لئن خضتم هذا البحر لخضناه معكم”. فصدرت بيانات جمهورية تدعو الناس لنصرة المزارعين من حكومة استعمارية وشركة اجنبية. ووجهوا خطابهم إلى “يا أيها السودانيون وقوفاً مع “هذا المزارع الكادح” الذي لا يدرون نوايا الاستعمار من وراء إرهاقه بالجهل والمرض. فلا يريد أحد لهم ذلك “إلا أن يكون الفقر والجهل والمرض هم جنود الاستعمار” ليثبت اقدامه في السودان. وعليه فهي حكومة لابد أن تزول. وأكدت بيانات الجمهوريين على حق المزارع الاطلاع على حسابات المشروع لأنها حساباته. وأن تبني له المدراس والمصحات من الضرائب.
والبادي أن أمين، ما تلقى التوجيه باستثارة الناس لتأييد إضراب المزارعين، حتى اتصل بالجنيد على عمر عضو الحزب بمدني، مركز مشروع الجزيرة، والمعلم بمدرستها الأهلية أن يوافيه بمعلومات عن قضية أولئك المزارعين. وهنا مربط الفرس والتقاطع بين الجمهوريين والحزب الجمهوري. فالجنيد هو نفسه الذي سيذهب لمصر لدراسة القانون ويلتحق بحديتو، المنظمة الشيوعية في مصر. وبرع في العمل التنظيمي حتى استأثرت به حديتو وجعلته مسؤولا عن هذا الجانب من عملها في القاهرة. واحتاج الحزب الشيوعي الناشئ لخبراته فألح على استعادته للسودان. وعمل في قيادة الحزب ومنظماته مثل المديرية الشمالية في أوائل الخمسينات. ثم عمل مسؤولا عن جبهة التنظيم في مركز الحزب.
وأسفر الجنيد في الرد على صديق المرضي، سكرتير الحزب، عن ذكاء كالنصل عُرف به. فاستغرب الجنيد في رده سؤال صديق أن يوافيه عن مشكلة مزارعي الجزيرة بينما مندوبو المزارعين بطرفه بالخرطوم وكل ما يختص بالمسألة بالصحف. وقَبِل على مضمض أن يكتب ما يعرف من معلومات عن وضع المزارعين الذي لن يختلف عما جاء عما بالصحف. وشفع بيانه بتعليقات تنم عن حدة بصر سياسي مرموقة. وظل يشير مرة بعد أخرى إلى الصحف التي لم تخرج معلوماته عن تقاريرها. وكشف عن مهنية سياسية في كتابة التقرير هي التي زكته لشيوعي مصر فأمسكوا به بأيديهم العشرة لا يريدون له السفر للسودان كما تقدم.
بدأ الجنيد في الرد على أمين بنبذة عن مفهوم مال الاحتياط كما ينبغي:
1) نبذة عن مال الاحتياطي. خلال الأزمة ١٩٢٩-١٩٣٢ سلفت الحكومة المزارعين مالاً بالنظر إلى بؤس حالتهم. وشرعت تستقطع السلفية منهم بعد ذلك. وبعد استرداد الدين رتبت الحكومة والشركة لتأمين نفسها من الأزمات بمواصلة الاستقطاع. ووضعت ماله في بنك بإنجلترا بالفائدة. وفي ١٩٤٥ اطلعت الحكومة لجان القرى بأن لهم ثلاثة عشر مليون جنيه للتفكر في الاستفادة منها. واقترحت من جانبها أن تبني لهم الحكومة منها جوامع ومصحات واستراحات للإنجليز وأندية للمزارعين. وعلق الجنيد أن بناء تلك المنشآت هي من واجب الحكومة لا المزارعين البؤساء. ولم يقبل المزارعون بعرض الشركة وطلبوا أن يوزع المال عليهم عداً نقداً لتلافي ضائقتهم. فأحالتهم الشركة لمدير المديرية. ولما حصر المزارعون المدير حَوّلهم للمركز في الخرطوم. “وحدث ما حدث من مناقشات في الأمر. ونشرت كل هذه في الصحف المحلية فأرجو أن أحيلكم عليها”.
2) حجج قوية للمزارعين في مسألتهم:
فالمنطق مع المزارعين في:
أ-التأمين على المشروع شراكة فيها الحكومة والشركة. ولا ينبغي أن يُستقطع مال الاحتياط من المزارعين لوحدهم وهم الطرف الأقل حظاً من المشروع.
ب-ومتى اعتزلت الشركة والحكومة المساهمة في مال الاحتياط، وكان المزارع هو المساهم الأوحد فيه، صار له حق التصرف فيه كما شاء.
وخلص الجنيد إلى أن “هاتين النقطتين هما موضع الضعف في حجة الحكومة”.
3-وعاد لنقطة وجوب أن تبني الحكومة ما اقترحت بناءه من استراحات وأندية وغيرها من الميزانية العامة “لحكومة السودان الديكتاتورية” لا مال الاحتياط.
4-مشاكل المزارع العامة:
وعرض هنا حال معيشة المزارع كما رواها له مزارع. قال إنه يسكن في عشة على عنقريب واحد مع زوجته وأولاده الأربعة. ولباسهم خرق بالية لا يحصل عليها إلا بعضهم ويبقى الآخرون عرايا. وسمى الجنيد رواية المزارع ب”الحديث المحزن”.
ثم التفت إلى بيع المزارعين أرضهم للحكومة بأثمان بخسة للحاجة بينما جنت “جيوب الإمبراطورية الغاشمة” الأرباح الطائلة. ولم تقدم لهم الحكومة سوى شفخانات هزيلة ومدارس تحت الدرجة.
2-سمع من مزارع قال إنه أنفق على زراعته عشرات الجنيهات ثم انتهى إلى الخسارة في عامه القادم. “كيف؟ لا ندري!”. فمتى سأل عن نكسته تواترت المعاذير مثل قولهم إن قطنه متسخ في الدرجة الرابعة في مقاس الجودة. وهي درجات من صنع الشركة لا علم للمزارع بحقيقتها. “مع أن هذا القطن المتسخ، والذي يزعمون أنه نمرة 4، يُنسج ويباع بسعر الياردة ثلاثين جنيهاً! الخسارة! عجيب أمر هذه الخسارة!” المزارع مدان للحكومة.
3- ثم عرض لمطالب المزارعين بعد ما بوب مظالمهم.
أ-فيريد المزارعون أن ينالوا أربعين في المئة من الأرباح. وتبدو النسبة كبيرة في قول الجنيد إلا أنها توزع على عدد هائل من المزارعين “فلا تكون إلا قطرة في محيط”. ومشروعيتها في أن المزارع يصرف على مزرعته من هذه الأربعين في المئة في حين أن شركاءه، حسب قول أحد المزارعين له، بعيدون عن مصاريف الزراعة سوى النذر.
4-ويريد المزارعون أن يباع القطن في الأسوق العالمية وكسر احتكار إنجلترا في شرائه. “وهذا ما يطالب به المزارعون ويجب أن يطالب به حزبنا المجاهد لأن الاستغلال الاقتصادي هو الحجر للاستقلال السياسي”.
وحكى قصة من طوكر بالمناسبة. فقالت الحكومة لمزارعي طوكر بشرق السودان، في وقت ارتفع فيه سعر القنطار إلى تسعين جنيهاً، إنها لا ترغب في شراء القطن لسنتها. فأضطر المزارعون لبيعه للتجار بين خمسين إلى ستين جنيهاً. فعادت الحكومة لتشتريه بذلك الثمن البخس.
ثم قصة أخرى من مدني: مزارع قطن بالجزيرة من الغرب اشترى قطن اسكارتو (قطن غير نافع للنسيج) ليعمل منه مرتبة. وجد الرطل بثلاثة جنيهات. فلم يشتر. قابل المدير ليسأله عن المفارقة: لماذا قطن المزارع نمرة واحد بقرش واحد والإسكارتو بثلاثة جنيه. تحير المدير وأطرق، ثم ضحك ضحكة عصبية وقال: “ليس هذا الكلام منك. إلى هنا أقف عن الحديث”.
وختم الجنيد قوله بأنه لم يخض في موضوع الاحتياطي ف”ستجدونها في الصحف”. وقال: “ثم تلاحظ أنني سردت لك كثيراً من القصص لأني أؤمن بها للدعاية والتأثير في عامة الناس وخصوصاً البسطاء منهم، لذا اقترح على اللجنة توسيع هذه القصص في نشرات بأسلوب عاطفي ثم توزعها. ويمكنكم أن تصفوا منزل المزارع ومستوى المعيشة وصفاً قوياً، ومهمها بالغتم فلن تبتعدوا عن الحقيقة المرة”.
وأبدى استعداده ليزيد متى احتاج الحزب لمعلومات “وسنوافيكم بكل جديد”. ثم سأل أن يكتب صديق له عن برامج لحزب وتوضيحها متى انتهى الحزب من وضع شيء جديد. “أما إذا لم تضعوها فأخبرونا بنواياكم لنرسل لكم ما نراه من مقترحات ربما تكون مجدية بعض الشيء. وحتى نكون مشتركين في أعمال الحزب اشتراكاً رسمياً”.
“وختاماً تقبلوا فائق احترامي، وإنا لمنتصرون”
الجنيد على عمر[1]
خاتمة
وقفت الورقة عند منعطف في الحركة الوطنية في ما بعد الحرب العالمية الثانية وصفته ب”الجذرية” خرجت منه للوجود الحركة الجمهورية (١٩٤٥) والحركة السودانية للتحرر الوطني الماركسية (١٩٤٦)، نواة الحزب الشيوعي السوداني (١٩٥٢). وتمثلت تلك الجذرية لا في نقد ذلك الطلع الجديد صفوة القائمين بالحركة في الأحزاب الاتحادية، وتابعها مؤتمر الخريجين، والأحزاب الاستقلالية، لاقتصار نضالها للحكم الذاتي على أروقة التفاوض مع دولتي الحكم الثنائي فحسب، بل لترافق قيام التنظيمين مع انبعاثات جماهيرية مطلبية وطنية بين العمال والمزارعين والطلاب.
ولبيان شيوع هذه الجذرية في الجسد السياسي توقفت الورقة عند دراما نقاط تقاطع الحزبين في الرأي، والأداء السياسيين، وتبادل كادرهما المواقع . فالجنيد علي عمر الجمهوري الناهض في ١٩٤٦ بعمل الجمهوريين بين المزارعين مثلاً هو نفسه الذي عاد من بعثة دراسية بالقاهرة ناشطاً شيوعياً متفرغاً في مركز الحزب الشيوعي.
وسيعيننا استصحاب ديناميكية هذه الجذرية إلى فهم أفضل لتحول الحزب الجمهوري من السياسية الناشطة إلى التربية المسيسة في ١٩٥١. وهو تحول مهمل في مضمار دراسات الفكرة الجمهورية. ومن شأن هذا الاستصحاب أن يلقى الضوء على خلوص الجمهوريين إلى إفلاس الحركة الوطنية غربية الهوى إلى “مذهبية” إفلاساً لا يهدي إلى التحرر الوطني ناهيك عن بناء أمة ذات قيمة. وهي المذهبية التي طلبها الحزب بلا هوادة في تركيب مستنير بين الأصل والعصر. فغطىت دراسات الحركة الوطنية على النقد الثقافي الجذري لحركة الخريجين المحنا له هنا الماحاً سبقت به دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار القائمة ليومنا.
وسننتقل، متي اعتبرنا بتلك الجذرية السياسية والاجتماعية، إلى فهم أفضل لقيام الحزب الشيوعي بالذات فينا نتجاوز به استنكاره كسفاح فكري. فميلاده بين فرث الحركة الوطنية ودمها، وفي تقاطع مع الحزب الجمهوري على قاعدة نهوض اجتماعي وطني شعبي، يستدعى تحليلاً له يدنينا من فهم ذلك المنعطف الجذري في تاريخنا المعاصر بأكثر مما يدنينا لفهم الحزب نفسه.
.
قد تكون صورة ‏‏‏٦‏ أشخاص‏ و‏أشخاص يقفون‏‏
الزميل الجنيد على عمر القيادي بحدتو المصرية بين قياداتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.