محمد جلال هاشم: هل جسدنا الثقافي موصل رديء للمعرفة

0 72

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(إلى روح الراحل عبد الله حمدنا الله. كان يطرب لمثل الحديث الذي اسوقه أدناه. ما كتير على ربو لكين أماني ما مات زول)

 

قلت مراراً إن جسدنا الثقافي موصل رديء للمعرفة. وأعرض هنا لواقعة معرفية لم تصل ذلك الجسد بعد أكثر من أربعين عاماً من نشوئها. وأسفت أن اتصلت هذه الواقعة بطالبي الدكتور محمد جلال هاشم. فهو من استعذبت منه دائماً عزته بالمعرفة لا يطلبها فحسب بل يدونها في وقت انصرف الناس عن التدوين بالهرج. والأعجب حرصه على النشر عملا بقولهم عدم النشر خيانة من الكاتب. مما أوثره فيه كانت عزته بالقلم والمصابرة على أنه رمية برام وستنفذ بنا من المهالك إلى طريق لاحب سعيد لبلدنا.

قال محمد جلال هاشم في معرض بيانه عن تأثير اللغة النوبية على العربية إن اللغة تقترض الكلمات من اللغات الأخرى في قاموسها ولكنها لا تقترض التراكيب من غيرها. وقال، بناء على مقال لمحمد المهدي محمد وزكريا علي أحمد عنوانه “ملامح من التراكيب النوبية في اللهجة السودانية” (مجلة الدراسات السودانية، المجلد العاشر، العدد 1، أبريل 1990) إن العامية العربية السودانية اقترضت تراكيب نوبية. ولا يحصل مثل هذا الاقتراض، حسب جلال، إلا أن في حالة أن المقترض كان على لغة تلك التراكيب ثم تحول إلى لغة استجدت عليه. فهذا الوافد إلى اللغة المستجدة يرحل لها بتراكيبه لأنه لا يعرف سواها. بمعنى آخر: كان المتكلمون باللهجة العربية السودانية ليومنا من جعليين وبقارة وكبابيش وقريات نوبيين ثم تحولوا إلى العربية فوفدوا إليها بتراكيب لغة النوبة.

سنتجاوز الفكرة الكبرى من وراء تعليق محمد جلال وهي أن السودانيين الزاعمين أنهم عرب إنما هم في الأصل نوبة استعربوا بدليل أنهم وطنوا تراكيبهم في اللغة العربية التي تحولوا إليها.

ومن التراكيب التي جاء بها محمد جلال نقلاً عن مهدي وزكريا ما يعرف ب”الفعل المساعد”. ف”قاعد” في “أنا قاعد أمشي” فعل مساعد يدلا على استمرار المشي لا حقيقة القعود. وهو تركيب حسب قول مهدي وزكريا في النوبية لا في العربية. فإذا ما قلت لسعودي “أنا قاعد أمشي” لسخر منك لأن الأمر عنده أم أن تقعد أو تمشي لا كليهما.

ولبيان الفعل المساعد ضرب جلال مثلاً من الإنجليزية. فقولك “I have got money” يجعل “have” فعلاW مساعداً لاستمرار تملكك المال. أما إذا قلت “I got money” ف”got” فعل قوي وقد يكون المال معك ما يزال أو أنك انفقته في شأنك.

وضرب مهدي وزكريا أمثلة أخرى لتراكيب نوبية نقلها النوبيون المستعربون، في قولهم، للهجة العامية العربية.

كنت طرفاً في نشر مقال مهدي وزكريا خلال رئاستي لتحرير “مجلة الدراسات السودانية” في 1990. كان استرعى المقال اهتمامي لطرافته في الاهتمام بالتراكيب في اللغة العربية خلال تداخل الثقافة النوبية والعربية التاريخي. وكان اقتصر المبحث في ذلك التداخل قبلاً على اقتراض الألفاظ مثل الكثير من مصطلح الساقية. وهو مقال أكاديمي قوي الحجة بكل المقاييس. وأغرتني طرافة مبحثه والجدية فيه لعرضه على مختصين في علم اللغة أطلب الرأي منه فيه لنشره جنباً إلى جنب مع المقال. فعرضته على البروف عبد الله الطيب، وعبد المنعم محمد الحسن الكاروري من السودان، ومحمد عمايرة في الأردن. والأخير ممن عرفتهم بجامعة أنديانا في سنوات العقد الثامن الأولى. وكانوا عند حسن ظني بهم فوافوني بتعليقاتهم في ساعتها ونشرتها ذيلاً لمقال مهدي وزكريا.

أعود لمحمد جلال هنا. فتعليقات المختصين هذه لم تتفق مع مهدي وزكريا وبخاصة في اقتراض العامية السودانية الفعل المساعد من النوبية. فعندهم أن العامية السودانية لم تكن بحاجة للنوبية لتقع على الفعل المساعد علاوة على أنه فاش في عاميات عربية مختلفة.

فقال عبد الله الطيب في تعليقه بكثرة وقوع الفعل المساعد في العربية الفصيحة. ف”قعد” تأتي في معنى “صار”:

أرهف شفرته (السيف) حتى قعدت كأنها حربة

وأضاف أن “قاعد ساكت” أي أنه صار ذا سكوت. فساكت تابعة ل”قاعد” لا ل”يتكلم”. وخلص إلى أن ملاحظات مقال مهدي وزكريا “ذات بال ولكنها لا تثبت كل الثبات مسألة التأثر بالنوبية”.

أما محمد عمايرة فقال إن “قاعد” كفعل مساعد معلومة في اللهجة العربية الأردنية. فيقولون “الأولاد قاعدين يلعبو”. ولأن العامية العربية الأردنية لم تختلط بالنوبة صح السؤال إن لم يكن “قاعد” كفعل مساعد تركيب عربي أيضاً. وزاد بأنه، والأمر كذلك، تساءلت “عن مدى استقامة التعليل الذي قدمه الباحثان” وهو أن الفعل المساعد مما ترحل به النوبة إلى العربية خلال عملية استعرابهم. بل ذكر وجود نفس الفعل في العاميات العربية في مصر وعرب الشوا في نيجيربا.

ربما صحت حجة مهدي وزكريا برغم نقد عبد الله الطيب ومحمد عمايرة. غير أنني لم آت هنا للتحكيم في صحة أيهما. فما استدعى تعليقي هو إضراب محمد جلال بالكلية عن أي ذكر بأن حجة مهدي وزكريا، أياً كانت صحتها، مما أخذ عليها مختصون في حقله المآخذ وفاتت أذنه شخصياً. وذكر هذه المآخذ دين في عنق أكاديمي كمحمد جلال يسدده للقارئ أو المستمع اتفق معه أو لم يتفق. ومما زاد إضراب محمد عن ذكر مآخذ عبد الله الطيب وعمايرة كبراً أنها مما نشر مع مقال مهدي وزكريا نفسه لإحماء النقاش حول المسألة الهامة التي جاء بها.

فأنا لنا رحابة الثقافة وزينة العقل وجسد المعارف عندنا للنهش فعل الجلق لا النقاش المحيط بالمسألة من جوانبها جميعاً. وهذا النظر منتظر من مثل محمد جلال يصغي له الناس فيما سماه عصفاً فكريا. ولا يكون العصف الفكري بما اتفق للعاصف. لا بل بما تمليه عليه مناهج البحث والعصف.

كان منتظراً من طالبي أن يثقف السياسة الضارة التي احدقت بموضوع الهوية السودانية لعقود. ولم نجدها عنده.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.