تجربة جبهة المعارضة ضد ديكتاتورية عبود

0 79
كتب: تاج السر عثمان بابو
.

1. نواصل متابعة دروس أكتوبر الأخضر ، ونستعرض في هذا المقال تجربة جبهة أحزاب المعارضة للحكم العسكري الأول أو ديكتاتورية عبود (نوفمبر 1958- أكتوبر 1964)، واستخلاص دروسها باعتبارها حلقة في سلسلة نشاط الحزب في التحالفات منذ تأسيسه استنادا الي الماركسية كمنهج لدراسة الواقع ، لا النقل الأعمى من الكتب أو تجارب الآخرين، ودون التقليل من النظرية التي ترشد الممارسة، وبدورها الممارسة تغنى النظرية.

   كان من نتائج الصراع من أجل وجود الحزب الشيوعي المستقل في منتصف عام 1947 ، حل مشكلة التحالف مع الأحزاب الأخري المناهضة للاستعمار، مع الاحتفاظ باستقلاله التام في تنظيم الجماهير وقيادة نضالها ، وفي الكفاح ضد الاتجاهات المترددة والرجعية من جانب الرأسمالية الوطنية، وفي ذلك يقول عبد الخالق محجوب في كتابه لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ” كان أول ثمار لهذا الاتجاه السليم اشتراك الحزب في الجبهة الوطنية عام 1947 ، وبروز نشاط أعضائه ومواقفهم الثابتة ضد اتجاهات التردد بين أحزاب الطبقة الوسطي ، وكانت الجبهة الوطنية بمدينة الخرطوم بحري وضواحيها خير مثال لما يمكن أن يؤدي اليه النشاط الثوري للحزب الشيوعي ” ، ص 50، طبعة دار الوسيلة 1987.

   اضافة لتأكيد استقلاله في التحالفات، واصل الحزب التقاليد الثورية وسط الحركة الجماهيرية من : مظاهرات  وليالي سياسية ، وندوات مقفولة ومنشورات، ونظم مقاومة واسعة ضد الجمعية التشريعية عام 1948 التي استهدف الاستعمار بقيامها قطع الطريق أمام نمو الحركة الجماهيرية ، وصارع ضد الأصوات الداعية للدخول فيها وتعديلها من الداخل ، ونظم الحزب مظاهرات مع أطراف الحركة الوطنية الأخري ضدها ولم تكن المقاطعة سلبية، بل ارتبطت بنهوض جماهيري واسع شمل كل المديريات الرئيسية ،كما في عطبرة التي قدمت شهداء الجمعية التشريعية، ، وبعدها الجبهة المتحدة لتحرير السودان اضافة لتاسيس رابطة الطلبة الشيوعيين  والنساء الشيوعيات ، ومؤتمر الطلبة ، مؤتمر العمال  عام 1949، وبعدها تأسيس اتحادات الطلاب والمزارعين والعمال والموظفين والمعلمين ، واتحاد الشباب والاتحاد النسائي ، والجبهة الديمقراطية للطلاب في نوفمبر 1953 بعد انفراط عقد مؤتمر الطلبة، وباقتراح من الحزب الشيوعي ، وتواصلت الاضرابات والمقاومة الجماهيرية، وقيام الجبهة المتحدة لتحرير السودان التي تراكمت وتطورت حتى استقلال السودان عام 1956.

2 . جبهة المعارضة ضد ديكتاتورية عبود .

   تكونت جبهة المعارضة بعد مذكرة أحزاب المعارضة في 29 نوفمبر 1960 التي طالبت باسقاط الحكم العسكري ، والغاء حالة الطوارئ، وعودة الديمقراطية والحياة النيابية. الخ، والمذكرة الثانية التي كانت في مطلع عام 1961 للمجلس الأعلي للقوات المسلحة التي احتجت فيها علي مسلك الحكومة تجاه المذكرة الأولي، واشترك الحزب في جبهة أحزاب المعارضة حتى نهاية عام 1962 ، ثم انسحب منها.

   كان ذلك بعد تصاعد الحركة الجماهيرية ضد الديكتاتورية بعد اضراب عمال السكة الحديد الذي بعث الحركة في صفوف أحزاب المعارضة ، وجاء الاستنكار الواسع لحادث تعذيب المناضل حسنين حسن علي يد الزين حسن الطيب وبطانته ليزيد حدة المعارضة ، مما أدي لاعتقال زعماء المعارضة في: 12 / 7 / 1961 (اسماعيل الأزهري ، عبد الخالق محجوب، أحمد سليمان ، مبارك زروق، محمد أحمد محجوب، عبد الله خليل  أمين التوم ، عبد الله عبدالرحمن نقد الله، المرحوم عبد الله ميرغني، عبد الرحمن شاخور) ، وصدر بيان من الحزب الشيوعي طالب باطلاق سراح زعماء المعارضة بتاريخ : 16 / 7 / 1961، وجاءت مجزرة المولد يوم 21 / 8 / 1961 التي راح ضحيتها 12 من الانصار وهم يؤدون شعائرهم الدينية التي وجدت استنكارا واسعا ، واستنكر الحزب الشيوعي المجزرة في بيانه بتاريخ: 22 / 8 / 1961.، كما ارسلت جبهة المعارضة مذكرة الي ضباط البوليس في 24 / 8 / 1961  وتراجعت الحكومة بعد اضراب زعماء المعارضة في المعتقل ، وتم اطلاق سراحهم.(للمزيد من التفاصيل : راجع ثورة شعب ، اصدار الحزب الشيوعي 1965).

3 . أضراب زعماء المعارضة عن الطعام والافراج عنهم :

في يوم 27/1/ 1962 أضرب زعماء المعارضة المعتقلون في جوبا عن الطعام إلى أجل غير مسمى وحتى يتم الافراج عنهم وللتفاصيل المتعلقة بذلك الاضراب التأريخي أنظر (المعتقلون يواصلون نضالهم من وراء القضبان، ثورة شعب ، المصدر السابق).

أحدث ذلك الاضراب هزة عنيفة وفزعا شديدا في الأوساط الحاكمة خاصة وقد شن الحزب الشيوعي حملة واسعة عالمية ومحلية قبل الإضراب وفي يومه الأول والثاني ، مما  أضطر الحكومة إلى الاسراع بالافراج عن المعتقلين يوم الاحد : 28/1/1961 ، أي في اليوم الثاني للاضراب .

4 . جبهة الاحزاب المعارضة تتراجع :

لقد كان لذلك النصر التاريخي السريع والحاسم الذي حققه الشعب أثره الكبير في رفع الروح المعنوية للجماهير وفي أستعدادها لتحقيق المزيد من الانتصارات . ولكن جبهة الاحزاب لم ترتق إلى مستوى ذلك الموقف مع الأسف ونحن نورد فيما يلي الوقائع التي تثبت أن جبهة الاحزاب بنهاية عام 1961 وبالتحديد بعد وفاة الامام الصديق المهدي بدأت تتراجع بانتظام عن مواقع المعارضة الايجابية .

ـ وافقت جبهة الاحزاب على قرار الحكومة القاضي بالغاء الاحتفال بعيد الاستقلال الذي قررت الأحزاب أقامته في أول يناير في عام 1962 بجامع الخليفة .

ـ وافقت الأحزاب على قرار الحكومة بإلغاء الاحتفال الذي قررت أقامته بمناسبة الافراج عن زعماء المعارضة وبعد أن وزعت رقاع الدعوة على الجماهير .

ـ رفضت الأحزاب الدعوة التي تقدم بها الحزب الشيوعي السوداني مرتين لتبني شعار الاضراب السياسي العام بوصفه طريق الخلاص من الحكم العسكري (أنظر الفصل الخاص بالاضراب السياسي، ثورة شعب ، مصدر سابق) ومرالنصف الاول من عام 1962 وجبهة الاحزاب لا تحرك ساكنا، رغم كل المحاولات التي بذلها الشيوعيون لكي تتجاوب الجبهة مع الاحداث .

5 . وفي هذه الاثناء كانت الحركة الثورية الديمقراطية بقيادة الشيوعيين وتحت تأثير نضالهم تزداد عمقا وأتساعا يوما بعد يوم ، واستمرت تحركات العمال والطلاب والمزارعين وبدأ شعار الإضراب السياسي العام الذي وضعه الحزب الشيوعي في صيف عام 1961 يجد فهما وتقبلا من الأوساط الشعبية المتقدمة .

وفي هذه الظروف ناقش المكتب السياسي للحزب في أوآخر عام 1962 موقف الحزب الشيوعي من تجمع المعارضة المعروف بجبهة الأحزاب وقرر المكتب السياسي بالاجماع الانسحاب من ذلك التجمع وذلك للاسباب الآتية : ـ

ـ لقد أيد حزبنا منذ البداية تجمع أحزاب المعارضة وهو لايزال في أطواره الاولى ، ولأن ذلك التجمع كان من الممكن أن يؤدي ـ وقد أدى بالفعل ـ إلى توسيع وتعميق جو المعارضة العام للنظام العسكري الرجعي ، وكان أشتراك الحزب الشيوعي فيه عنصرا أيجابيا وزاد ذلك التجمع قوة .

ـ ولكن وبمرور الزمن وبتزايد حركة الجماهير الثورية من عمال وزراع وطلاب ومثقفين ، أثبت تجمع أحزاب المعارضة عجزه عن مسايرة حركة الجماهير الصاعدة والبعيدة والعميقة ، والتي تتسع تحت القيادة المباشرة للحزب الشيوعي أو بتأثيره .

ـ بالموقف السلبي الذي وصل إليه تجمع المعارضة خلال عام 1962 أصبح ذلك التجمع ذا آثر سلبي على الحركة الثورية ، لأن أقســـــــاما من الجماهير ترى فيه طريق الخلاص دون مبرر .

ـ أن الاضراب السياسي العام هو طريق الخلاص وقوات الاضراب هي العمال والمزارعون والطلاب والمثقفون ولذلك أصبح لزاما على الحزب توفير كل وقته وجهده للعمل وسط هذه القوى حتى تصل الحركة الشعبية إلى مرحلة التنفيذ الشامل للاضراب (أنظر الفصل الخاص بالاضراب السياسي العام) .

ـ تجمع المعارضة أصبح مصدر خلط فكري شديد فيما يتعلق بالجبهة الوطنية الديمقراطية , أن كثير من الناس كانوا يعتقدون أن تجمع أحزاب المعارضة هو الجبهة الوطنية الديمقراطية التي يدعو لها الحزب ، ولذلك لابد أن يوضح الحزب على أوسع نطاق الفرق بين تجمع أحزاب المعارضة والجبهة الوطنية الديمقراطية التي هي جيش متحد ومن القوى الثورية العمال والمزارعون والطلاب والمثقفون الثوريون .

كانت هذه هي النقاط التي أعتمد عليها المكتب السياسي للحزب في قراره الخاص بالانسحاب من أحزاب المعارضة وقد وافقت للجنة المركزية في دورتها المنعقدة في يناير سنة 1963 بالاجماع على قرار المكتب السياسي الخاص بالانسحاب .

6 . أخيرا ،هكذا كان الحزب الشيوعي منذ البداية يعرف طبيعة تجمع أحزاب المعارضة  وأن هذا التجمع لا يمكن أن يكون بديلا للعمل وسط الفئات الثورية بل أن الاخير هو الاساس الاول .

  لذلك فأن أنسحاب الحزب الشيوعي من تجمع المعارضة في نهاية عام 1962 كان متمشيا تماما مع سياسته السالفة الذكر والرامية إلى توسيع حركة الطبقات الثورية للحد الاقصى , ويمكن القول بأن الأحزاب منذ ذلك الحين وحتى أندلاع ثورة 21 أكتوبر ظلت بوجه عام تلتزم الصمت رغم كل ماكان يجري في البلاد من أحداث ، بينما كانت الفئات الثورية تخطو كل يوم خطوة جديدة نحو الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي كان أداة مهمة في إسقاط ديكتاتورية عبود..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.