يا هبوباً باردي في أمريكا!
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
عدت منذ أيام لأمريكا لإيلافي الصيفي. وكلما جاء يوم العودة هذه تذكرت طرفة رباطابية. قيل إن رجلاً منهم تزوج فوق زوجته بامرأة من الشرام. والشرام هو بربر القديمة التي جعلتها المهدية خرائب. ورايته يوماً شاهداً على عزائم المهدية أن تبني مدنها الصحيحة فوق أساس جديد. ولم يعد الشرام شراماً. فقد عمّره أهل القرى عشوائياً تحت نظر مصلحة الآثار والثقافة. كان الرجل متى اشتاق إلى أهله في الشرام قال: “يا هبوباً باردي في الشرام”. وعرف الجميع أن رحلته للشرام باتت وشيكة. ولذا اقول لنفسي كلما رتبت للسفر لأمريكا “يا هبوباً باردي في أمريكا”.
فرغت من صلاة الجمعة الماضية وتآنست مع سودانيين أمام المسجد بمدينتي كولمبيا. قلت لهم إنني اتطلع لخلوة مع مما كنت فيه في السودان من عقود وعزاء وغيرها. ما أطلعت الشباب السوداني على سريرتي حتى جاءني زميل مصري يطلب مني الذهاب إلى باب آخر بالمسجد لتعزية حسن جونسون في وفاة زوجته. وفعلت. وقلت “فاتحة” وخلاص. وما توقعت أن أجده يقف أمام جثتها المسجاة على حامل بعد الصلاة عليها بين الاستعدادات القائمة لدفنها بمقابر المسلمين بمدينة جيفرسون سيتي على بعد نصف ساعة من كولمبيا. ولم أعرف كيف أعزي حسن جونسون. فوجدتهم يحضنونه ويقولون سوري. ففعلت. وقلت يا لحضارة السودان التي سرها في يدها. الفاتحة للعزاء وطرقعة الأصابع للطرب. ووقفت أنتظر موكب تشييع الجثة وسترها.
حسن جونسون شخص آسر. كان يلبس وقتها منطلوناً وقميصاً غير محشي في اللباس وكرافته. قلت هذا مفهومه للباس الحزن. كان طويلاً جسيماً عثر على الوظيفة المناسبة كسجان. حزنت له فوق ما تحزن لآخرين. فهو رجل طيبان. ينثر عبارات الإسلام مثل “الحمد لله” و”ما شاء الله والله” في إنجليزته الصحيحة بمناسبة وغير مناسبة. ولا بد أن أسأله يوماً كيف أهتدى. ففي الرجل دروشة. وأول علاقتي به كان شديد الاعتزاز بأن بعث بابنه إلى دمشق ليتفقه في دينه واللغة العربية. “والله يا سبحان الله هي إز دوينق أوكي. هي كوميتد جزء عم تو هارت والله مبروك إن شاء الله”. ولم ينجح مشروعه الأثير فقد لهت الصبي لاهيات. وأطلعني بحزن بالغ على فشله: “والله هي ديددنت دو قود إن سيريا. الله كريم إن شاء الله. نو وري الله ونتس إت دس وي. قل الله أحد الله الصمد. نحمد الله برزر يا سبحان الله”. كان ابنه يقف بمقربة منه أمام المسجد مائلاً إلى السمنة وله وجه عليه علائم عبط خفيف. ولكنه قام بستر أمه في القبر بأحسن الوجوه.
لما انصرف الرجل وابنه من القبر أشفقت عليهما. من لهما بعد تلك التي عادت للتراب؟ فقد بدا لي دائماً أن وراء هذين الطفلين المسلمين الكبيرين امرأة عظيمة. رحمها الله.