اتفاق سلام جوبا في عيده الثاني: طبعة منقحة للسودنة (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تمر في هذا الشهر الذكرى الثانية لتوقيع اتفاق سلام جوبا في أول أكتوبر 2020 بين حكومة السودان الانتقالية وبعض حركات دارفور المسلحة. وجاءت هذه الذكرى والاتفاق في مهب ريح إلغائه من جهة أو تعديله بصورة أو أخرى حتى بين الحلف الدارفوري الذي وقع عليه.
ربما كانت الدعوة لإلغاء الاتفاق إبعاداً في النجعة. وخرج حتى إبراهيم الشيخ، الذي استنكر الاتفاق في طوره الجنيني على مائدة المفاوضات كما رأينا، ليقول إنه داعم له محذراً من النكوص منه طالما صار استحقاقاً دستورياً. ولم ير ياسر عرمان، من الحرية والتغيير المجلس المركزي، أيضاً صواب إلغائه برغم رأيه السيء في الحركات التي وقعت على الاتفاق وكان منها يومها. فقال إنها انقلبت على برامجها في الإصلاح الهيكلي لمركز الدولة والديمقراطية لتتحالف مع المركز القديم وتقف مع الانقلاب الذي هدم الثورة. وأضاف بأنه يتفهم الغضب الجماهيري على سلوك قادة الحركات الأطراف في الاتفاق، ولكنه لا يراه يرقى سبباً لإلغاء الاتفاق، بل إلى إعادة نظر جدية فيه.
وستكون إعادة النظر الجدية هذه بمثابة توطين مبادرة السلام في الديمقراطية. وهو توطين ليس من عقائد صفوة الهامش مثل مسلحي دارفور. فغالباً ما وقعوا اتفاقات مع نظم، أو سلطات، عسكرية قصدت إلى استيعابهم في قسمة الوظيفة في المركز بغير اكتراث لتنزيل السلام إلى قواعد أهلهم. فكان العقيد جون قرنق نقد اتفاقية سلام أديس أبابا (1972) بين نظام الرئيس نميري (1969-1985) والقوميين الجنوبيين أنها مثل طبعة ثانية من “السودنة”. والسودنة هي العملية التي حل بها سودانيون وظائف الإنجليز بعد استقلال السودان. وكان حظي بتلك الوظائف في وقتها صفوة من شمال السودان النيلي (ما يعرف بالمركز في مصطلح صفوة الهامش) دون غيرهم. وكانت اتفاقات الإنقاذ مع حركات دارفور واحدة بعد الأخرى منذ 2004 من نوع الطبعة الجديدة للسودنة. ويجمع بين كل تلك لاتفاقات أنها لم تدم لأن النظام العسكري بضيق اصدره بها متى لم يعد يحتج لها. فألغى نميري اتفاق 1972 من جانب واحد. ووجدت صفوة دارفور، من الجانب الآخر، أن مساحتها في الحركة السياسة بعد الاتفاق مع نظام الرئيس البشير تكاد لا توجد. واضطر مني مناوي، أحد الموقعين لاتفاق سلام جوبا الحالي وحاكم ولاية دارفور، للعودة للحرب مرة ثانية بعد اتفاق السلام الذي انعقد بينه والإنقاذ في مدينة أبوجا بنيجيريا في 2006.
وتجد الموقعين على اتفاق جوبا الحالي سبقوا الآن إلى الإعلان عن ضيقهم ذرعاً بالتسويف في إنفاذ مادة دمج قواتهم في الجيش السوداني في الاتفاق. فلا أحد تحسب لتكلفة هذه العملية المسرفة، ولا لتكاليف أخرى مثل طاقة ميزانية السودان لتخصيص سبعمائة مليون دولار سنوياً لدارفور في كل عام لرفع خراب الحرب عنها. وكان ألهم تنصل الحكومات العسكرية عن الإيفاء بالتزامات مواثيقها مع صفوة الهامش أبل ألير، السياسي البارز في جنوب السودان، عنوان كتابه “التمادي في نقض العهود” عن محنة صفوة الهامش مع المركز الشمالي.
وربما شمل التفكير عن مراجعة اتفاق جوبا “خارج الصندوق”، في قول ياسر عرمان، استصحاب الحركة الشعبية لتحرير السودان (عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السودان (عبد الواحد محمد نور) في مبادرة السلام. فصعب حقاً أن نتكلم عن سلام في السودان وقد اعتزلته الحركتان. فمتى قَدِمت الحركتان لمائدة التفاوض للسلام لن تصمد نسب السلطة ومحاصصتاها بين المركز والأقاليم التي نالتها أطراف اتفاق جوبا الحالي. فأوزان الحركتين المرموقة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ربما استدعت تعديلاً جذرياً في تلك النسب والمواقع.
وسيكون ضمن جدول أعمال مراجعة اتفاق جوبا بالطبع إلغاء المسارات، “الزائدة الدودية” في الاتفاق، لشمولها أقاليم لم تخض حرباً على أنها لها قضايا تاريخية مع المركز حول التنمية والموارد. ومن المبشر أن أطراف جوبا قبلت في ميثاق أخير لها بتجميد مسار الشرق وأن تكون نظارات البجا والعموديات المستقلة طرفاً لا غنى عنه في أي مفاوضات تجري لإعادة النظر في المسار. لقد تأخرت هذه الأطراف طويلاً في النزول على إرادة جماعات الشرق الشرعية في ألا يُفتى في أمرها في غيابها. ووقع ضرر كثير من تأخرها. والخير في أن تأتي متأخراً لا ألا تأتي. وقد لا نحتاج لاتفاق جوبا للسلام لتفاوض حول قضايا الشرق وغيره من الأقاليم. سيغنينا مؤتمر قومي نعرض عليه قضايا التنمية والحكم لكل السودان بما في ذلك الأقاليم التي تمثلها حركات مسلحة.
ستسلس هذه المراجعة الجذرية لاتفاق جوبا إذا لم ترها أطرافه الدارفورية مجرد إملاء عليها هي عازفة عنه. فمن الصعب على هذه الأطراف نفسها بعد عامين من توقيع الاتفاق أن تزعم أنه أحسن إلى دارفور سوى في أنه “طبعة سودنة” جديدة في أحسن الأحوال. وهي طبعة بدأت تستثير صفوات من دارفور نفسها مثل الهيئة العليا للحكم الذاتي لجنوب دارفور. فتصدر منها بيانات تحتج على استئثار الحركات المسلحة، والإثنيات التي خرجت منها بثمار هذه الطبعة دونهم.