صلاح أحمد إبراهيم: لست من الرجعية في شيء فلتكف عن انتصارها لي فالتقدمية هي الحق والمنطق والتاريخ (2)

0 107
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كنت محرراً للصفحة الأدبية بجريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي، في 1965 حين صدر ديوان “غضبة الهبباي” لصلاح أحمد إبراهيم. وافتتنت به. وكان دون عرضه على صفحتي بالميدان خرط القتاد. فلم يفصل الحزب صلاح من صفوفه وسمع منه بعد الفصل قولاً ثقيلاً فحسب، بل قرأ في نفس الديوان قصيدة “أنانسي” التي هجا فيها أستاذنا عبد الخالق محجوب هجاء مقذعاً عذباً ووصفه لعمر مصطفي المكي، رئيس تحرير الميدان، بأن انتهازيته متمكنة منه تمكن شلوخه. ولهذا كان عرض الديوان في الميدانtough sell a باللغة. ولم اترهب مع ذلك خاصة بعد أن قرأت لرفيقنا عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة كلمة في الميدان شوى فيها صلاح وديوانه شياً. وتوكلت وكتبت المقالة الأولى ومرت ولكن توقف النشر بعد ذلك. ولم أقبل منها ذلك ناظراً لصيت الأحزاب الشيوعية الحاكمة وغير الحاكمة مع مبدعيها آنذاك. وجلست إلى أ.ستاذنا عبد الخالق محجوب. وعاد لي بعد أيام بقرار عودتي للنشر ورسالة من المكتب السياسي عن “هذه الصفحة” (أي صفحة الادب) قال فيها إن ليس للحزب نظرية في الإبداع ولا نقاداً معتمدين والأمر متروك للنظر الزمالي الحر. ما تنشللالو “كلنق أب صلعة” كما كانت تهفو له أفئدة الرفاق.
خيبت تلك السنوات البائسة في حياة بلدنا الافتراض الذي وضعه الشاعر تاج السر الحسن في المقدمة التي كتبها لديون سيد أحمد الحاردلو حيث نفى عن تاريخ الشعر السوداني وجود اتجاهات رجعية سلطانية. وكان قال “وما يمكن أن يسمى باتجاهات رجعية سلطانية في الشعر والأدب السوداني هذه الظاهرة لم توجد في الماضي، ولن توجد في المستقبل طالما كان هناك شباب متيقظ وعاملً لإحياء تراث وثقافته الوطنية”. فتحت الحكم الرجعي الديكتاتوري تكشف هذا الاتجاه الرجعي. وأتضح أن له جذوراً ضاربة ومصالح أكيدة مع السلطة السياسة التي تذل الشعب وتقهره. وعليه لا يجدي التعميم والاستبشار في مسألة كهذه إن كنا بصدد تزويد حركة التقدم في الادب السوداني بالإلمام بواقع وتاريخ هذا الأدب حتى يتيسر له أن تشب أقدامه فيه على بصيرة وهدى.
جاء في مخطوطة تاريخ الفونج لكاتب الشونة أن فرمان تعيين جعفر باشا صادق حكمداراً للسودان على عهد التركية قد تم “بحضور جمع حافل من العلماء وأركان الدولة وغيرهم من أرباب المناصب والصولة ثم عقب الشعراء دخل الناس عليه بالسلام” وأنشد مميز علماء السودان قصيدة في مدحه جاء فيها:
وأقول في تاريخ ذا متضرعاً يا رب أوجد للأمارة جعفرا
فحين يجيء شاعر كأبي القاسم عثمان، . . . وبوأ جهوده الضالة لتكوين الاتحاد العام للأدباء السودانيين بالتآمر مع وزير الاستعلامات بالخذلان، ليمدح الفريق عبود في قصيدة “شعار المجد عبود” بقوله:
رعى عبود ثورتنا فعزت وها هو عقدنا زاه نظيم
تدور لنا المصانع والسواقي وتحتدم المعامل والعلوم
. . . . . . . . .
شعار المجد عبود لدينا فليس يسوم ساحتنا غشيم
حين يتقيأ شاعر مثل هذا القول يزين به وجه نظام ما أوجد الله على ظهر البسيطة نظاماً أشد منه هزالاً وعزلة وفسقاً فينبغي على حركة التقدم في أدبنا أن تتحسس الخيط الذي يمتد عبر الأيام فيشد أبا القاسم عثمان إلى صنوه مميز علماء السودان، ويجعل من سلوكهما ظاهرة فكرية لها ماضيها وحاضرها. وصح أن نتأملها على ضوء حكمة عربية قديمة قالها العربي أبو عمرو بن العلاء حين سئل: لم خضع النابغة للنعمان؟ والنابغة هو النابغة الذبياني الذي يقال أنه أول من تكسب بالشعر في بلاط الملك النعمان في الحيرة. فأجاب أبو عمرو بن العلاء قائلاً رغب في عطائه وعصافيره.
فعبر تاريخ بلادنا وجدت السلطة السياسية مداخلها لتبشع بالأدب وتسخره لينطلي حكمها الغاشم على الناس. ووجد الشعراء الذين شغلوا بعطاء وعصافير تلك السلطة السياسية. بل ووجد أدب الدعاية الذي كان طوع إرادة الحاكمين لتقبيح الثورة المهدية وتسفيه مضماينها. فقد ارتضى رجل فاضل كالشيخ محمد شريف نور الدائم لنفسه أن يسهم في حملة الدعاية التي نظمها عبد القادر باشا حكمدار السودان للحط من قيمة الثورة المهدية، وتكذيب دعوة المهدي للمهدية بغرض عزله وصرف الناس عن تأييده والهجرة إليه. وخاض فيها الشيخ محمد شريف نور الدائم مع الخائضين من العلماء أصحاب المناصب في جهاز الدولة التركية. فكتب قصيدة حكى فيها كيف تتلمذ المهدي عليه السلام عليه، وكيف قام على نهج الهداية حتى غرره شيطان من الإنس وآخر من الجن فكاشف المهدي أستاذه بمهديته:
فقال أنا المهدي فقلت له: استقم فهذا مقام في الطريق لمن يدري
وجب استبصار تاريخ الاتجاهات الرجعية في السودان، لا التعامي عنها، ودراستها على منهج من الشمول والإحاطة لا التعامل معها كنتف مجزأة وشرائح متناثرة. فهذا هو دليل العمل لحركة الأدب التقدمية في بلادنا بخاصة في ظروف ما بعد ثورة أكتوبر. وهي الظروف التي انقسمت بلادنا فيها بين طريق التقدم المستقيم وطريق الرجعية الأعوج، وفيما نرى من مشايلة الرجعية لبعضها البعض في أوساط الفئات العاملة ونشوء منظمات انقسامية القصد منها تبديد الطاقة وتلويث أهداف حركة الشعب. وامتدت هذه الجهود في حقل الأدب حيث وزير الاستعلامات، . . . ، يفتح ابوابه، فعل سلفه من وزراء الاستعلامات، للمشبوهين من الأدباء يجزل لهم العطاء ووعود العون الأخذ باليد. فواجب حركة الأدب التقدمي في بلادنا أن تتحفز وتتيقظ بالدرجة الكافية متثبتة من مواقع أقدامها على قاعدة من الفهم والدراسة لتعرف الصديق من العدو بحاسة تدبر وفكر.
كان لزاماً عليّ أن أتريث ما وسعني التريث على المدخل الذي اتخذته لديوان “غضبة الهبباي” لصلاح أحمد إبراهيم وهو عرض الاتجاهات الرجعية في الأدب السوداني إذا شئت، أو شئنا جميعاً، أن نتدارس بأناة وصبر ما جاء به صلاح في مقدمة الديوان. فقال “مهما يكن من أمر فليس للرجعيين أن يقروا عيناً. فيكفوا عن انتصارهم لي فلست منهم في شيء وأنوفهم غارقة في وحل أعمالهم وليعلموا أن التقدمية هي الحق والمنطق والتاريخ”.
وجاءت كلمته هذه بعد أن تعرض بالهجاء المقذع وغير المقذع لبعض قادة الحركة الشيوعية في السودان وسوريا وغيرهما. إلى أي مدى يصدق الشاعر في هذا القول؟ هل قولته هذه هي ذلك التعبير المكرور الذي نسمعه من كل من بارح ساحة الحزب الشيوعي وانتضى لسانه في الهجوم عليه، أو على بعض رموز قيادته وأقطابه؟ أم أن في طياته تتفتح روح جديد تنتشله من الجمود والبرود اللذين لازماه ودفع الشيوعيين ليتصدوا له بإجابة جاهزة وهي: شئت يا هذا أم لم تشأ فإنك تضع يدك في يد الرجعية وتحت تصرفها. تعتمد الإجابة على هذه الأسئلة على النظر في سيرة صلاح وشعره.
وإلى حديث قادم.
(نقلت النص من مسودة المقالات التي احتفظت بها. واقتضى ذلك مني التدخل بتحرير بعض الجمل هنا وهناك)
.
قد يكون فن ‏شخص أو أكثر‏

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.